السبت 2013/03/30

آخر تحديث: 08:05 (بيروت)

لا قمر فوق بوربون ستريت

السبت 2013/03/30
لا قمر فوق بوربون ستريت
increase حجم الخط decrease
 اليوم هو "ثلاثاء الدسم" أو "ماردي غرا" كما ينطقها أهل المدينة بالفرنسية، التي لم تعد هي لغة الشارع هنا. نعم، هذه مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتكلم الفرنسية. 
هو الثلاثاء الذي يسبق أربعاء الرماد في المعتقد المسيحي، حيث من المفترض أن يأكل الناس وجبةً دسمة قبل الصوم الكبير، تتكون عادة من  أرز "الچامبالايا" بالسجق وحبات الفاصوليا الحمراء وأهلة الجمبري الذهبية. في المدينة أيضاً طابع كاريبي يسيطر على طريقها الساحلي. بالطبع أنا لم أقصد أن أصل إلى نيو أورليانز في يوم كرنفالها، ولكن السائحين، وأنا منهم، يجعلون من كل يوم من أيام هذه المدينة كرنفالاً، أو"ماردي غرا" دون أن يعقبه بالضرورة أربعاء رماد أو صوم كبير.
محال كثيرة في شوارع "الحي الفرنسي" تبيع فولكلوريات السحر، وأدوات طقوس الفودو الغامضة، سواء للاستعمال الشخصي أو للتذكارات السياحية: عرائس صغيرة من الخزف أو العاج، بشعور مضفرة كالحة السواد، وعيون من خرز تعكس نظراتها رعباً صامتاً. لو رصصت هذه العرائس وفقاً لنظام معين قد تؤثّر في مصير شخص ما. هناك أقنعة لموتى، وجماجم بأحجام مختلفة من مادة بيضاء تشبه العظم، وجفنات فرعونية محشوة بأحشاء المومياوات، وخفافيش من مواد لزجة بدماء سائلة على خطومها الجرذية.
أتخيّل نفسي مصاصّ دماء يهيم على وجهه بعد انتصاف الليل في هذه المدينة السحرية، متلفّعاً بمعطف أسود طويل، يختبئ وجهي خلف ياقته العالية تطاردني تلك الأغنية القديمة متسربة من زمن الثمانينيات. نحن الآن في عام 2009، وذلك الفتى الإنجليزي الذهبي الذي كان في وقتها مُدرّساً متمرّداً يقارب حركات البانك، يبدو الآن كنجم عاطفي يلهب قلوب العذارى على طريقة عبد الحليم حافظ، فيما أنا مواطن مصري يسير مُجرجراً خطواته في شوارع مدينة أميركية يتباطأ عندها نهر المسيسبي قبل نهايته في مستنقعات موحلة تسكنها تماسيح القاطور الضخمة... "إنك لن ترى أبداً ظلي.. ولن تسمع وقع خطوتي.. عندما يكون القمر ساطعاً فوق بوربون ستريت.."
جئت إلى هذه المدينة تلاحقني شهرة شارع بوربون ستريت، بنوادي الموسيقى وبارات الاستماع؛ هذه مدينة الجاز، وهنا منشأ هذه الموسيقى الساحرة أعظم ما أنتجته الولايات المتحدة. كل من هم في هذا الشارع من السائحين، وتستطيع تمييزهم بسهولة، أميركيين وأجانب. الأميركيون تسيطر عليهم روح السياحة أكثر من الأجانب. جاءوا من مدن الغرب الأوسط المحافظة، حيث "الرقاب الحمراء" ورعاة البقر وقد فقدوا أسطورتهم، إلى هذه المدينة المتحررة، يجرعون البيرة في أكواب بلاستيكية من مقاس "الباينت" على قارعة الطريق، وهو ما لا يتاح في مدن وبلدات البراري. الأضواء الحمراء، ونساء خرجن من روايات فلوبير يقفن على أبواب البارات يدعونك للدخول. "لا أملك خياراً سوى أن أتبع النداء".
لو أنك تعرف مدينة شرم الشيخ المصرية، هناك شارع اسمه "خليج نعمة". هو ليس شارعاً في الحقيقة، هو ديكور منقول من استوديوهات هوليوود في الخمسينيات لشارع على نمط أفلام الويسترن: واجهة شارع، أو شريطان متقابلان من واجهات المحال: بارات طبعا، وصالونات حلاقة وأندية للقمار.. هناك تغسل أكثر من مافيا أموالها وتديرها في اقتصاد معزول عن الاقتصاد الحاضن.. واجهات المحال، تعكس فكرة تعميق ما هو سطحي، وفقاً لمصطلح رولان بارت، فذلك الشريط الرفيع من الواجهات تغوص خلفه بطون علب الليل الساهرة على تدوير عجلة اقتصاد المتعة المسروق من سياق ملتهب.. وهنا في بوربون ستريت، نفس التعميق لما هو سطحي، وإن كان أكثر أصالة وإيغالاً في العمق لبطون تلك العلب التي تتمحور حولها عجلة اقتصاد أكبر حجماً.
لم يعد الجاز هو الموسيقى المنتشرة في نوادي الشارع الشهير، فباراته تقدم نوعاً رخيصاً من الروك آند رول السياحي. وعليك إذا أردت أن تستمع إلى جاز حقيقي أن تبتعد قليلاً.. فررت من شارع "بوربون ستريت" بصخبه الملون، وانزلقت منحرفاً إلى شارع بإضاءة خافتة، الجو مُشبَّع بالندى.. "أرى وجوهاً بينما هي تمر تحت أضواء الفوانيس الشاحبة".. ربما إلى شارع "فرينش مِن"، أي الرجال الفرنسيون. الإنسان هنا لا يقابل المراهقين الصاخبين كباقي المدن الأمريكية، من تراهم في الأغلب كهول فوق الأربعين من الجنسين.. ومن الجنبات يتردد نعيب ساكسفون سوبرانو يبكي إعصاراً ضرب هذه المدينة مخلفاً مئات الضحايا والمشردين، وكانت حتى ذلك اليوم، لا تزال تتعافى من آثر ذلك الحدث الجلل. 
ثلاثيات ورباعيات وخماسيات من العازفين في نوادي الـ "فرينش مِن"، بيانو وجيتار ودرامز، وساكسفون أو ترومبيت، وكونتر باص غليظ يطن بأوتار كالحبال. هنا التقليد القديم للجاز. يجلس المنصتون يحتسون مشروباتهم بانهماك في السماع. ويدخلون في عاصفة من التصفيق في أعقاب كل وصلة ارتجال. ينفرد عازف، وليكن البيانيست بالتيمة الأساسية للّحن، ثم يبتعد عنها مقدار خطوتين.. ثم ينوّع على هذا الابتعاد، ثم يبتعد بمقدار أربع خطوات.. وينوّع أيضاً.. ويوغل في الابتعاد بارتجالات متطرفة حتى تكون قد نسيتَ اللحن الأصلي، فإذا به يعود إليه مرة واحدة ويعزف التيمة الرئيسية بمفرداتها المكتملة، لتنفجر عاصفة التصفيق ويعود شمل العازفين ليلتئم في مجرى المقطوعة. وتكون قطعة ثلج قد ذابت في كأسك.
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب