الأربعاء 2013/03/20

آخر تحديث: 09:00 (بيروت)

كأني زرت هذه المدينة مراراً

الأربعاء 2013/03/20
كأني زرت هذه المدينة مراراً
لوحة لسلفادور دالي
increase حجم الخط decrease
بينما أُدرِّسُ اللغة العربية لسيدة أجنبية في الخمسين ـ وإن كانت تبدو أصغر من ذلك بكثير ـ سرحتُ مع ذراعها الأبيض الطويل وتسمّرت عيناي على شامةٍ صغيرةٍ سمراء في تلك الصفحة الناصعة المشربة بالحُمرة. استغرقت في النظر إلى الشامة، فرأيت صفحة الذراع طريقاً، والشامة رأسي السائرة على ذلك الطريق، وأنا أشرف من مكان علوي على المشهد البعيد، كأن بيني وبين نفسي غيوم... أراقب ذاتي من علٍ، بإحساس بالشفقة عليها، بتعالٍ ميتافيزيقي... ووصلت في نهاية الطريق إلى بلدةً صغيرةً، خُيِّل إليّ أنني زرتها قبل ذلك مراراً. بيوت البلدة صغيرة، لا تعلو أسوارها على قامة إنسان، تنبثق من داخلها أشجارٌ ترمي ظلالها على شوارع رملية ضيقة تُداخل البيوت. كل البيوت بيضاء، أبوابها وشبابيكها مطلية بألوان وقورة.
كأنني في إجازة طويلة، طالت حتى صارت قانوناً، وبدت كأنها بلا نهاية. لم أحمل لذلك هماً. أعيش في تلك البيوت الوادعة مع قومن كأنهم أعمام أو أخوال. يدخلون عليّ بالطعام والشراب، ولا يخلو الأمر أحياناً من قليل من النبيذ. يبتسمون في وجهي، ونتبادل حوارات خفيفة حول الطقس ومدى جودة الطعام وعدد ساعات النوم، طالت أم قصرت. وكنت أجد نفسي متنقلاً من بيت إلى آخر متى عنّ لي ذلك، وبي زهد في الاستفسار عن أي شيء. لا زلت أتذكرهم: ذلك السمين الضاحك، والسيدة العجوز ذات الشعر الرمادي، والتي فكرت بيني وبين نفسي أنها ربما تكون مسيحية. وتلك الفتاة، صديقتي، لساعات طويلة جلست معي في الغرفة التي أعدّوها لي في بيتهم، تشكو عدم استطاعتها الزواج من الشاب الذي تحبه. وكانت تلامسني، طالبةً الحنان، ولم أكن لأبخل بتلك المشاعر، مع زيادات من عندي لا تخرجني عن طوري كمجرد مستمع للشكوى. فكرت في أن هذا المكان ليس الجنة، إذ تعجز الفتاة عن الزواج من حبيبها.                      
وفي صباح أحد الأيام التي لا تنتهي استيقظت نشيطاً في منزل السيدة ذات الشعر الرمادي، وتناولت إفطاراً شهياً: بيض مقلي وخبز وعسل نحل، مع كوب من القهوة الثقيلة بالحليب، وقررت أن أخرج لأزور القصر. كنت قد عثرت عليه مصادفةً في أولى جولاتي في البلدة، فيما سرت في شارع شبه رئيسي متسع، البيوت على جانبيه أكبر قليلاً من البيوت الأخرى التي ألفتها في أرجاء المدينة، مع احتفاظها بالطابع نفسه للأسوار والحدائق. وبينما تأملت تلك الفوارق، انحرفت في شارع جانبي صغير، ثم انحرفت مرة أخرى في شارع مواز للشارع المتسع الذي كنت أسير فيه، فإذا بي مباشرة أمام القصر. لم يكن قصراً بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن عندما تذكر القصور. لا قباب ولا ردهات ذات عقود وأقواس. مجرد فيللا كبيرة نوعاً ما، على طراز أوروبي غير محدد. كان الشارع خالياً إلا من ذلك القصر، جانباه محفوفان بأسوار لحدائق مغلقة لا شخصية لها، لكثرة ما في تلك المدينة من الحدائق. وسوى القصر، لا أثر لبيت آخر. وبدا الشارع كما لو كان خلفياً للشارع الرئيسي الذي سرت فيه قبل لحظات. وقفت أتأمل القصر من على الرصيف المقابل. كان ساكناً، مغلق الشرفات والنوافذ. وفي ما عدا تغريدة لبلبل أو شقشقة عصفورين يتشاكسان على أغصانه الوارفة، لا يسمع صوت صادر من داخله، ومع ذلك لم يبدُ مهجوراً، وقدّرت أن سكانه، كباقي أهل البلدة، هادئون إلى تلك الدرجة التي لم نعهدها في القاهرة. ولما كان متاحاً لي أن أزور كل البيوت، من دون حرج، قررت أن أؤجل زيارة القصر إلى وقت لاحق، ومضيت مواصلاً جولتي يدفعني الفضول إلى اكتشاف المدينة... لأرجع، ذات يوم، إلى ذلك القصر وأزور سكانه، وربما قضيت بينهم بضعة أيام. وها أنا في هذا الصباح الرائق، أقرر زيارة القصرن واكتشاف أي نوع من الناس يسكنه.
خرجت بعد تناول إفطاري وتبادل الأحاديث الصباحية المعتادة مع السيدة ذات الشعر الرمادي. بعد مسيرة ما يقرب من عشرين دقيقة، وصلت إلى منطقة القصر، وأخذت أبحث عن الانعطافة التي ولجت منها إلى ذلك الشارع الخلفي، لكني لم استطع تحديدها. وفي كل مرة انعطفت من الشارع الرئيسين قادتني الشوارع الفرعية إلى شارع رئيسي مواز... قدرت أنه لا بد يقع بين الشارعين الرئيسيين. وبعد وقت طويل، لمحت السقف القرميدي الأحمر للقصر، يلوح مرتفعاً خلف بيوت. فكرت أني وصلت أخيراً، لكني لم استطع العثور على الانعطافة الصحيحة. هكذا، أخذت أجرب كل الشوارع الفرعية، الواصلة بين الشارعين الكبيرين، لكن  بلا جدوى. كان القصر يفرّ من بين يدي، كلما ظننت أني اقتربت منه. تذكرت الحكمة القديمة: "من يسأل لا يتوه"، فسرت باحثاً عمن أسأله، في مكان يبدو البحث فيه عن شخص سائر في الطريق كالبحث عن الحقيقة. أخيراً، وجدت، على ناصية شارع فرعي، كشكاً لبيع الصحف. للمرة الأولى، أصادف ذلك الاختراع الورقي الذي يدوّن فيه التاريخ اليومي، المنفلت بصدقه وكذبه في تلك المدينة. سألت صاحب الكشك عن الطريق إلى القصر، لم يرد، بل قال أنهم حرموه للتو من عشرة قروش من دخله اليومي هي ربحه في ثمن صحيفة واحدة. قلت له: كيف هذا؟ فأجابني بأن أحدهم جاءه بيدين ملطختين بالدماء يطلب جريدةً يغطي بها جثة رجل قتلته سيارة مسرعة. ولم ينتظر الرجل جوابه وانتزع جريدة ومشى. قلت له: ما هذه القسوة؟ أتغضب من أجل عشرة قروش سيغطى بها رجل مات؟ تغطية الجثث لها ضرورة دينية وأخلاقية، وفوق ذلك هي رحمة للمارة ولعيونهم من أشلاء تؤذيها. فقال إن قوت أولاده فوق تلك الاعتبارات، وأغلق باب الحوار. بدا أنه لن يجيب أبداً عن سؤالي في شأن القصر، لكن صحفه طفت على سطح اهتمامي: ما نوعها؟ أسماؤها؟ عناوينها الرئيسة؟ سحبت واحدة أطالع عناوينها، فإذ بي لا أستطيع القراءة، وإن ميّزت حروفاً عربية. كانت الكتابة غائمة، كما لو أن عينيّ زائغتين. قرّبت الصحيفة من وجهي، فإذا بالكتابة تزداد طمساً، كأني أراها عبر الماء. لم أكد أواصل محاولاتي للقراءة حتى جذب مني البائع الصحيفة بعنف ليردّها إلى مكانها. وللمفاجأة، صار الكلام واضحاً، ميزت مفردات. إلا إن نظرات البائع وسلوكه الفظ أرغماني على مغادرة المكان، إذ لم تبد عليَّ نية الشراء... وفوق ذلك لم أكن أصلاً أحمل نقوداً.
 
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب