الأربعاء 2014/07/16

آخر تحديث: 14:08 (بيروت)

خالد زيادة: غياب الأفكار يفسر جانباً من تعثر الثورات

الأربعاء 2014/07/16
خالد زيادة: غياب الأفكار يفسر جانباً من تعثر الثورات
لم يكن لأمة أو شعب أو ثقافة أن جاورت أوروبا على نحو العرب والمسلمين
increase حجم الخط decrease

لا يحتاج خالد زيادة إلى تعريف، وهو الجامع بين البحث الفكري والعمل الديبلوماسي كسفير للبنان في مصر. لم تمنعه الديبلوماسية من طرح أفكاره الجديدة والغنية حول الثقافة والمجتمع والسلطة وحياة المدينة.. وحول هذه القضايا، وأكثر، تحاوره "المدن"..

- أنهيت كتاب "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب" في خضم انطلاق الثورات العربية... هل ستتبعه بجزء ثان حول ما انتهت إليه هذه الثورات وما أفرزه الحراك من ظواهر؟

* كتاب "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، هو تقاطع بين مسارين تاريخيين. حين شرعت في كتابته قبل سنوات، كانت الفكرة الرئيسة هي إعادة قراءة التيارات الفكرية الكبرى منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأثر أوروبا في تبلورها، وكيف تلاشى هذا التأثير خلال العقود القليلة الأخيرة، الأمر الذي أدى من جملة أمور إلى بروز التيارات الأصولية. من جهة ثانية فإن الثورات العربية التي قامت العام 2011، والتي لم يكن أحد ليتوقعها على النحو الذي جرت فيه، جاءت لتؤكد الفكرة الأولى، وهي أنه لا أفكار كبرى تقود هذه الثورات، على غرار الثورات التي عرفها العرب منذ مطلع القرن العشرين، والتي حركتها أفكار الحرية والوطنية والاستقلال، كالثورة العربية العام 1916، والثورة المصرية العام 1919، والثورة الجزائرية في خمسينات القرن الماضي. وغياب الأفكار الكبرى يفسر جانباً مهماً من جوانب التعثر الذي شهدته الثورات العربية، فلم يكن شعار "الشعب يريد اسقاط النظام" كافياً. سقطت أنظمة من دون القدرة على صياغة إجماع حول النظام البديل.
وقد أشرت إلى أن الثورة ليست حدثاً مفرداً، بل هي سلسلة من التغيرات في مدى زمني يمتد لسنوات وربما لعقود. ومَن ينظر إلى الواقع العربي اليوم، يتيقن من أن ما بدأ في 2011، لن نرى له استقراراً في مدى قريب، وأننا إزاء مخاضات عنيفة ستفضي إلى آفاق جديدة. أما بالنسبة للسؤال حول ما إذا كنتُ أُفكر بكتابة جزء ثان للكتاب، فإنني حالياً أعمل على جمع المادة اللازمة لمواصلة الاشتغال على جانب من جوانب ما يحدث اليوم في العالم العربي، خصوصاً لجهة العلاقة بين الأفكار والسلطة والمجتمع.

- في كتاباتك تركيز على أثر أوروبا في العالم العربي، لماذا أوروبا وليس أميركا؟

* كتبت ثلاثة كتب حول علاقة العرب والمسلمين بأوروبا: "اكتشاف التقدم الأوروبي" الذي نشر في مصر بعنوان "المسلمون والحداثة الأوروبية"، والثاني هو "تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا"، والثالث "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب". وحاولت من خلالها قراءة العلاقة التاريخية المعقدة والمتقلبة بين عالمنا وبين العالم الأوروبي. وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأن الجوار العربي – الأوروبي فريد في التاريخ والجغرافيا. فلم يكن لأمة أو شعب أو ثقافة أن جاورت أوروبا على نحو العرب (والمسلمين). ومنذ فتح إسبانيا، مطلع القرن الثامن الميلادين لم يهدأ التبادل بين العالمين، تبادل الحروب والبضائع والثقافة والعلاقات البشرية. وهذه العلاقة راسخة في مخيلتنا وثقافتنا بشكل عميق، ويكفي أن نذكر الحروب الصليبية ثم المرحلة الاستعمارية.
ثانياً: لأن تأثير أوروبا في العالم غير مسبوق في تاريخ الحضارات، لم يحدث في التاريخ الإنساني أن غيرت حضارة العالم برمته على النحو الذي صنعته أوروبان لقد بدلت العالم، ليس بالعلوم والصناعة فحسب، وإنما بالأفكار في الدرجة الأولى، خصوصاً أفكار التنوير التي تبنتها النخب الفاعلة، من الصين إلى الهند إلى العالم العربي إلى أميركا اللاتينية. كما أن أوروبا هي التي أسست العلوم الانسانية والاجتماعية والانتربولوجيا، وهي العلوم التي بدلت المعارف لدى شعوب العالم.
أما بالنسبة إلى أميركا، فمن المعروف أن تقدمها العلمي والتقني، امتداد لتقدم أوروبا، أي أننا نتحدث عن امتداد للحضارة الأوروبية الغربية. وقد أصبحت الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان لها ولا يزال تأثير سياسي وعسكري حاسم. إلا أن أميركا لم تغير العالم على النحو الذي غيرته أوروبا، خصوصاً لجهة الأفكار والانسانيات. وإذا كانت تنتج الأبحاث العلمية الأرفع، فإن أوروبا واليابان تشاركانها في الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات على قدم وساق.

- في القاهرة أعدت إصدار الكثير من كتبك، ماذا أضافت إليك هذه المدينة ثقافياً؟

* إقامتي في القاهرة منذ سبعة أعوام، أتاحت لي فرصة نشر العديد من الأعمال التي سبق أن نشرتها في بيروت، كما أني نشرت أبحاثاً وتحقيقات أصدرها للمرة مثل ترجمة وتقديم "سفارة نامة فرانسة" للسفير التركي إلى باريس العام 1720، وأهمية هذا النص أنه يتحدث عن باريس قبل الطهطاوي بما يزيد عن مئة عام. كما نشرت مجموعة من الأبحاث حول السجلات الشرعية جمعتها في كتاب واحد.
وقد تنبهت إلى أن السعي إلى ترجمة الأعمال إلى اللغات الأجنبية قد يبدو امتيازاً بالنسبة إلى البعض، لكن نشر الأعمال من عاصمة كبرى مثل القاهرة له أولوية، خصوصاً أن أعمال اللبنانيين وغيرهم من العرب معروفة على نطاق ضيق من عدد محدود من المتابعين.
وهذه المسألة في حد ذاتها بحاجة إلى نقاش معمق، ذلك أن التبادل الثقافي بين البلدان العربية لا يتم إلا خلال معارض الكتاب. وفي مصر نوع من الاكتفاء الذاتي الثقافي إذا جاز التعبير، ذلك أن إنتاج الكتب فيها يتفوق من حيث الكم والنوع على سائر البلدان العربية. وكما أن المصريين يعطون أهمية محدودة لما ينتج خارج القاهرة، فإن اللبنانيين على سبيل المثال لا يتابعون اتجاهات التأليف في ميدان الرواية أو الأبحاث الفكرية والتاريخية التي تصدر في مصر.
صدرت خلال السنوات الثلاث الماضية، عشرات الكتب عن أحداث مصر منذ 25 يناير 2011، كما صدرت عشرات الروايات لأجيال مختلفة من الروائيين، وهي أيضاً غير معروفة وغير منتشرة، وهذا جانب من جوانب أزمة الثقافة العربية في الوقت الراهن، وعنوانها الرئيس الانقطاع وعدم التواصل.
وما استنتجته هو أن العمل ينبغي أن يجري في سبيل وصل ما انقطع، فقد كانت أحوال الثقافة العربية في الأربعينات والخمسينات لجهة التواصل والتبادل أفضل مما هي عليه اليوم.

- أصدرتَ دراسة عن الجبرتي، هل أدخلت مدونات هذا المؤرخ صورة مسبقة في مخيلتك عن القاهرة أو مصر؟

* تاريخ الجبرتي يرجع إلى القرن الثامن عشر وإلى بدايات القرن التاسع عشر، وقد فات عليه اليوم قرنان من الزمن. والسؤال مثير للعديد من الاجابات. فلو تجوّلت في باريس اليوم، لعثرت على المدينة زمن الثورة الفرنسية أي العام 1789. أما بالنسبة إلى القاهرة، فإن المدينة التي يتحدث عنها الجبرتي ما زالت قائمة في الجزء القديم منها، أما القاهرة الحديثة فهي التي نشأ بعض مظاهرها أيام محمد علي باشا، خصوصاً أيام إسماعيل باشا في ستينات القرن التاسع عشر، عدا التوسع الهائل الذي شهدته المدينة خلال العقود الأربعة الأخيرة.
وكل المدن تتغير بمرور الزمن، إلا أن المدن العربية تتبدل بوتيرة شوهت تراثها العمراني. وفي جميع الأحوال فإن أعمال نجيب محفوظ تحدثنا عن القاهرة بطريقة أكثر تفصيلاً، لطبيعتها الروائية، ولأنها تنتهي إلى فترة أحدث، ولأن الأحياء التي تحدث عنها ما زالت قائمة، تستوي في ذلك الأحياء القديمة والشوارع الحديثة التي دخلت في أعماله.
وفي جميع الأحوال، فإن الاهتمام بالجبرتي المؤرخ قد تراجع اليوم. ولا نجد دراسة حديثة تتناول تاريخه، منذ سبعينات القرن الماضي، بحسب معلوماتي، إلا في ما ندر. ولهذا تفسيره. فهناك اهتمام بنوع آخر من المصادر، ذات طبيعة وثائقية تقدم مواد غزيرة عن الفترة التي تحدث عنها الجبرتي. واليوم، مصر مشغولة بمقارنة الفترات المختلفة منذ أصبحت جمهورية، أي سحابة ستين سنة سابقة.

- أصدرت ثلاثية انتربولوجية روائية عن طرابلس وتحولاتها في السابق، الآن أي صورة يمكنك أن ترسمها بكلمات عن هذه المدينة؟

* كتبتُ عن طرابلس في مرحلة انتقال من الحقبة الليبرالية إلى الحقبة القومية، إذا جاز التعبير، وهي الفترة بين الخمسينات والستينات، عشتها وشاركت فيها، وحاولت أن أفهم التحولات التي راحت تطرأ في العمران والعلاقات الاجتماعية. وفي الجزء الثالث، أشرت إلى صعود الحركات الأصولية واضمحلال التقاليد الليبرالية والقومية على السواء.
وقد تحدث في الجزء الأول "يوم الجمعة يوم الأحد" عن أزمة العلاقة بين المدينة (طرابلس) والدولة. ففي روع أهل طرابلس أنها المدينة مع "ال" التعريف، وأن الدولة أهملتها أو اضطهدتها، وقد نشأ هذا الشعور في زمن الانتداب وتواصل في المرحلة الانتقالية وما زال قائماً حتى هذه اللحظة، وفي مواقف الأيام الأخيرة نجد أن هذا الشعور ما زال قائماً ويتلخص في تحيز الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ضد "المدينة".
وأسباب هذه المشاعر كثيرة لا مجال لبسطها الآن، إلا أنها تتفاقم في ظل اهتزاز فكرة الدولة وفكرة المدينة على حد سواء. والفترة الذهبية لتعايش الدولة مع المدينة (طرابلس)، في ستينات القرن الماضي والفترة الشهابية، قد مضت، ومنذ ذلك الوقت الدولة في تراجع، وطرابلس تتصدع بنيتها التي يسعى البعض إلى الحفاظ عليها، إن من طريق التشدد أو من طريق استعادة تراثها القريب (زمن الصورة الفوتوغرافية)، أو الدعوة إلى الحفاظ على آثارها.
إذا أتيح الوقت، في ذهني عمل روائي يربط اللحظة الراهنة بأجيال من الوعي المتعاقب يشرح التحولات والثبات في فكرة المدينة.

increase حجم الخط decrease