الأربعاء 2014/07/23

آخر تحديث: 11:08 (بيروت)

عبد الرحمن سيساكو أمام محاكم الجهاديين

الأربعاء 2014/07/23
increase حجم الخط decrease

بعد ثمانية أعوام من الصمت المطبق، يعود المخرج الموريتاني القدير عبد الرحمن سيساكو إلى السينما بفيلم "تومبوكتو" الذي يدور حالياً في فلك المهرجانات الدولية، من "كانّ" حيث عُرض في المسابقة الرسمية إلى "كارلوفي فاري" الذي اختتم قبل بضعة أيام. هذا فيلم "خطير"، يمكن إدراجه في مجموعة المرافعات السينمائية التي تدين التطرّف الديني، ولكن من دون أن تقدم خطاباً إيديولوجياً بديلاً سوى الطرح الإنساني العاقل الذي يعزّ على قلب سيساكو. 


تومبوكتو التي يصوّرها سيساكو هي مقاطعة في مالي عدد سكانها ٥٥ ألف شخصاً. تقع هذه المقاطعة، التي كانت تعد واحدة من اهم الحواضر الثقافية الاسلامية في غرب افريقيا ومركزا لمكتبة ودار للمخطوطات الاسلامية القديمة، كما نرى في الفيلم في يد الأصولية الإسلامية مع قدوم المجاهدين إليها. لقطة بعد لقطة، ودائماً بأسلوب سيساكو الإفريقي المنمّق، نكتشف الطبيعة الخلابة والمتناغمة التي تحتضن أناساً لا يتوقون سوى إلى حياة بسيطة، بعيداً من تعقيدات العصر الحديث. حياة تقتصر على نبذ العنف والتماهي بشكل عضوي مع هذا الديكور الدنيوي البديع. فالجنة هنا، الآن، في هذه الرقعة المنسية.


بيد أن للجهاديين رأياً آخر: فهم يريدون فرض الشريعة الإسلامية على الشعب. التدخين، الموسيقى، كرة القدم، كل هذا سيصبح من الماضي، جزء من التاريخ القريب. على النساء ارتداء الحجاب وعلى المراهقين أن يركلوا طابة خيالية خوفاً من مخالفة قوانين طارئة على محيطهم وفهمهم للوجود. يسيطر الذعر والرعب على هذه البقعة المسالمة، وتتصاعد وتيرة الخوف مع أحكام الرجم والقتل التي يصدرها الجهاديون لأتفه الأسباب. مع ذلك، يحافظ المواطنون على طول الانات في تصديهم لهذا الإرهاب الآتي من بعيد. 


لا يتناول سيساكو موضوع الأصولية الخطير كما في نشرات الأخبار. صحيح أن ظاهرة التكفير أصبحت موضة، إلا أننا نراه خارج السياق الإخباري التقليدي، مستخدماً السخرية اللطيفة غير الجارحة في روايته للمصيبة التي تحلّ في تومبوكتو. لا يهتمّ سيساكو بالإعلام بقدر اهتمامه بالنحو الذي يجب أن يُعلم به. فهو يستخدم آليات يمكن اعتبارها "خفيفة" ليحكي أشياء في منتهى الخطورة والمأساة. الحياة اليومية تتابع إيقاعها المتمهّل وتستمرّ بحلوها ومرّها، ولا ندرك فظاعة المشهد إلا عندما يتعمّق الجهاديون في نسيج المجتمع، لمحاكمة الناس على النيات.


يصوّر سيساكو هذا كله بحسّه المشهدي الرفيع، لا شيء ينقص للكادر، لا التشكيل ولا الألوان المشبعة بالضوء الافريقي. حتى المقاومة عند سيساكو لديها منطقها الخاص، ولا تنفلت أبداً عن عقالها، إلا في ما ندر. ويكفي أن نرى مشهد القتل في البحيرة لندرك مدى اعتماد سيساكو على اللغة البصرية. خلف رؤيته هذه، هناك إيديولوجيا إنسانية ما، دعوة للعودة إلى ينابيع إفريقيا. سيساكو ليس مخرجاً عادياً، فهو يحمل وجع قارة بكاملها في سينماه المحمولة على الظهر، ما البال إذا أضيفت إلى أوجاعه المتأصّلة أوجاع جديدة.


يمكن القول عن سيساكو إنه شاعر السينما الإفريقية، إذ أسّس أسلوبية بارعة وجمالية مستحدثة قائمة على البحث عن أشكال سردية نابعة من التجربة الخاصة والحميمة. أفلامه خلاصة اندماجه بثقافات غربية، وتكمن فرادتها في أنها تستمدّ هويتها من هوية المخرج، اللامنتمي والذي يحمل في الحين نفسه جرح العيش بعيداً عن مسقط الرأس (يعيش ويعمل في باريس منذ سنوات). مع سيساكو استعدنا الذاكرة المنكوبة والتراث الشفهي لحضارة سُلبت صورتها، وعرفنا ماذا يعني التورط العميق أمام الكاميرا ووراءها. في سينما هي أشبه بالصحراء القاحلة، أتى سيساكو بأحلام سوداء تبعث الأمل بدلاً من التباكي على مصير محتوم. أصرّ أن يكون ذلك الرحالة الفخور والمثابر الذي يبحث عن وطن يبتعد عنه كلّما اقترب منه. ليختفي كالسراب، كحلم ليلة صيف. 


سيساكو يفهم جيداً وظيفة الصورة، واستعمالاتها المتعددة ودورها في تشكيل ملامح القارة التي يأتي منها.

يقول: "الصورة شيء في منتهى الخطورة. طبعاً إنها مسؤولية! أكبر إهانة إلى إفريقيا هي اختزال صورتها وجعل صغائر الأمور طاغية على القضايا المصيرية المهمة. ليست هذه أفريقيا. لا أؤمن باحتمال وجود قارة أوروبية سعيدة من جانب، وقارة أفريقية بائسة وتعسة من جانب آخر. إذا كان من مكان أشعر فيه بارتياح فهو المكان الذي جئت منه، لكني أستطيع التكيّف مع الأماكن الأخرى. ليس على فيلم يؤرخ للمأساة الإفريقية أن يكون استعراضياً. لأن الرجل الذي يصرخ هو غير الدب الذي يرقص في الحديقة. السينما ليست خطاباً أو حقيقة تفرضها على الآخر. إنها رؤى تحاول تمريرها إلى الآخرين. لست الناطق باسم أفريقيا. في أي حال، لا أحد طلب مني أن أكون نائباً عن الشعب الإفريقي. ذلك الحمل ثقيل على كاهلي. لا نستطيع أن نحلم بالسينما في قارة ليس فيها للسينما وجود".


بالنسبة لسيساكو، الشعب الذي لا يوضع قبالة صورته لا وجود له. ما دفعه إلى الانكباب على الموضوع الإفريقي هو نظرته إلى أفريقيا كمساحة للظلم وهتك حقوق الإنسان. تجاه خطورة هذا الوضع، كان دوماً يشعر بضرورة التحرّك، حتى عندما أراد إظهار خبث الشمال في تعاطيه مع الجنوب. بالنسبة إليه، الحياة والأمل يتخطيان مفهوم العدالة. المشكلة أن لا وجود لمحكمة تعيد النظر في نفوذ الأقوياء. في مقابلة لي معه، حكى عن أنه لا يريد أن يأتي بصورة سلبية عن قارته، من نوع حروب ومجاعات ونزاعات عرقية. "عندما ننجز فيلماً نروي ما نعرفه. السينما مرتبطة جداً بالشخص الذي ينجزها. السينمائي كثيراً ما يعتقد أنه عبر سرد فصول من حياته، يروي حياة شخص آخر. أفضل طريقة للتقرب من الآخر أن تحكي عن نفسك. كل فيلم هو تلقين، درس من دروس الحياة. عندما أقترب من الذين أودّ تصويرهم، ثمة التباس في داخلي يزول: ما ينقصني أجده عند الآخر وآخذه. نية التواصل مع الآخر أهم من التواصل في ذاته". 

increase حجم الخط decrease