الخميس 2015/07/23

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

"الفجالة"... بوابة الحداثة تطوي صفحتها الأخيرة

الخميس 2015/07/23
increase حجم الخط decrease
كان احتراق مبنى الأوبرا المصرية في 28 أكتوبر 1971 بمثابة جرس إنذار نبه إلى ما يمكن أن يحدث لكل المباني التي كانت على شاكلته، وربما قيل وقتها نفس ما يقال الآن عن إجراءات الأمان المفتقدة وعن ضرورة التدعيم...الخ. وربما شكلت لجنة أو لجان ووضعت توصيات -لم تنفذ بالطبع- في النهاية فقدنا تحفة كانت تضارع أجمل وأهم مباني الأوبرا في العالم.

لم يمض وقت طويل حتى تكررت المأساة، وتعرض "المسافر خانة" لحريق ضخم العام 1998 أدى إلى تدميره تماماً، وضاع القصر الذي شيد بين العامين 1779‏ - ‏1788،‏ وكان أحد أروع نماذج العمارة الإسلامية في العالم، ومقراً يستقبل الملوك والأمراء من ضيوف مصر، وفي العام 2008 تكرر السيناريو الأسود نفسه، واحترق مبنى مجلس الشورى التاريخي.

الحرائق تحمل بين طياتها مفارقة غريبة، فالأبنية الثلاثة لها علاقة ما بالخديوي اسماعيل، "المسافر خانة" استقبلته مولوداً ورضيعاً، والأوبرا كانت حلمه الذي لطالما راوده لخلق مدينة على غرار باريس، أما "الشورى" فهو بمثابة تجسيد لفكره السياسي في قرب الحكومة من الناس، ووضع الأبنية الخدمية والتشريعية في قلب المدينة بدلا من الأطراف.

وكأن النيران تطارد إسماعيل الحالم بالحداثة. فمنذ أيام احترق عقار آخر عند مدخل شارع كامل صدقي، ونشب الحريق في العقار المكون من 4 طوابق منذ الساعة السادسة صباحًا، وفى ساعات، أتت النيران على مخزن أدوات مكتبية وأجهزة، وامتدت إلى باقي الطوابق. تهدم جزء كبير منه وكادت النيران أن تمتد للعقارات المجاورة، ووقتها كانت ستصبح كارثة حقيقية في شارع كانت تقوم تجارته الأساسية على الورق.. وهو أيضا من أبرز إنجازات عصر الخديوي إسماعيل!

تغير اسم الشارع في الأوراق الرسمية إلى شارع كامل صدقي، لكنه عند الناس كان لا يزال محتفظاً باسمه القديم.."الفجالة".

رواد الشارع الآن لا يعرفون شيئاً عن حكاياته وتاريخه ودوره العظيم في الفن القديم والثقافة المصرية، ببساطة لأن الذاهبين إلى "الفجالة" الآن لا يبحثون عن الكتب، فالشارع الذي كان أشهر شوارع إنتاج الكتب في مصر والوطن العربي تحول إلى أكبر شوارع الأدوات الصحية وسيراميك المطابخ والحمامات، ربما لكي يكشف عن تحول كبير شهدته مصر خلال الثلاثين عاما الأخيرة.. وعما جرى لحلم الخديوى القديم.

تجارة الكتب المدرسية والأدوات الكتابية، تبدو محاولة أخيرة للحفاظ على سمعة الشارع التاريخي، ويمكن اعتبارها تطوراً مسموحاً ومتوقعاً داخل النشاط نفسه الذي كان سبب شهرة الشارع. لكن دخول محلات قطع غيار الآلات ثم محلات تجارة السيراميك، قطع مسيرة التطور الطبيعي للشارع، لينقله إلى مجال آخر –ربما- تمهيداً لطي الصفحة التي كانت في وقت ما من أجمل صفحات الثقافة وأكثرها تطوراً.

حياة "الفجالة" الحقيقية، بحسب جمعية النهضة العلمية فى أحد برامجها عن الفجالة، بدأت منذ أن شرع الخديوي إسماعيل فى إنشاء "سكة الفجالة" في منتصف القرن التاسع عشر. صحيح أنها كانت منطقة عامرة قبل ذلك، لكنها كانت مليئة بالبرك وكانت مرتعاً للأوبئة. ومع مشروع إسماعيل أصبحت "الفجالة" بوابة الحداثة مع "باب الحديد"، فنمت المسارح ودور النشر والثقافة، وجاءت طرق المواصلات بتفاعلات بشرية غير مسبوقة، لحقها تنوع إثني كانت خلاله الفجالة نموذجاً تتمثل فيه عشرات الأجناس والأعراق والأديان. لكن، ومع نشأة الدولة المركزية ثم تضخمها في ما بعد، أصبح الأهالي على هامش مجتمعهم الضيق لا يملكون ناصيته، يتجاهلونه ويتجاهلهم، وإن بقيت حياتهم اليومية دائما كما هي، قادرة على التكيف وإبداع الحلول.

رغم الإجماع على إن اسم الفجالة مشتق من نبات "الفجل"، لكون المنطقة كانت مركزاً لبيع الفجل في زمن ما، إلا أن التاريخ الفعلي لشق الشارع لم يتفق عليه حتى الآن. لكن الأكيد أنه في عهد إسماعيل بدأ الشارع رحلته الحقيقية في عالم الثقافة والإبداع. ففي عهده تقدمت حركة الطباعة والنشر في مصر. وإلى جانب عنايته بمطبعة بولاق التى اشتراها العام 1865 وغيرها من المطابع الأميرية، شجع على انتشار المطابع الخاصة، وهذا أمر طبيعي من حاكم لم يكن يخشى انتشار المعرفة، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في انتشار المطابع وكثرتها في عهده.

ومع نهاية القرن التاسع عشر، انتشرت عشرات المطابع في قلب القاهرة، وبالأخص في تلك المنطقة المتصلة بالأزهر الشريف ودار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) ويصف المؤرخ محمد الطناحي مشهداً معبّراً عن كثرة وانتشار المطابع الأهلية فيقول: "وإذا أنت وقفت في ذلك الزمان، في ميدان باب الخلق حيث تقع دار الكتب المصرية، ونظرت عن يمينك وشمالك، ثم من قدامك ومن ورائك، ثم سرت في هذه الاتجاهات الأربع، لرأيت أعداداً كبيرة من المطابع في الأزبكية والفجالة وباب الشعرية وشارع محمد على ودرب الجماميز والخليج الناصري-بورسعيد الآن- وشارع حسن الأكبر وعابدين وشارع عبد العزيز ودرب سعادة والحسين والأزهر والموسكى والدراسة والخرنفش والجمالية، ومن دون هذه الشوارع الكبيرة ومن خلالها انتشرت أيضا عشرات المطابع في حارات القاهرة المعزية، مثل حارات الروم والنبوية ودرب الليل، تنشر صغار الكتب وكبارها".

ومن هذه المناطق المحدودة في قلب القاهرة خرجت ثقافة العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر، وفي الفجالة وحدها ظهرت مجموعة كبيرة من المطابع التي اختفى بعضها واستمر البعض الآخر وتوسع حتى أصبحت من أكبر دور النشر في مصر حتى الآن ومنها: دار نهضة مصر، ودار البستاني، مكتبة مصر، مكتبة الجهاد الكبرى، مكتبة الهلال، المكتبة المصرية، المؤسسة العربية الحديثة، ودار غريب.. وتاريخ هذه المكتبات هو التاريخ الفعلي للثقافة في مصر.

من الفجالة أيضاً خرجت أشهر أفلام السينما المصرية: "عروس النيل، الفتوة، المعجزة، شفيقة ومتولي، شيء في صدري، أم العروسة والحفيد"، وفيلم "باب الحديد" للمخرج الكبير يوسف شاهين الذي تناول شارع الفجاله نفسه كأحد أهم شوارع باب الحديد. وهنا يبرز اسم "استديو ناصيبيان" - ثاني أقدم استديو سينمائي في مصر، ويقع في أول شارع المهراني، ويقال أن المهراني نفسه هو أول من أطلق على الفجالة هذا الاسم، حيث كانت منطقة خالية من السكان بل ومزروعة بالفجل، فكان أول من بنى فيها بيتاً ومسجداً ومستشفى، وأطلق عليها منطقة المهراني أو منشأة المهراني. كانت أكثر فترات عمل أستديو "ناصيبيان" ازدهاراً في الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ثورة يوليو1952، أنتج منذ تأسيسه نحو 145 فيلما احتل بعضها موقعاً وسط أفضل الأفلام في تاريخ السينما المصرية. ثم باعه مؤسسه اليهودي، ناصيبيان، بأبخس الأسعار، بعد ثورة يوليو مباشرة، وهاجر من مصر، ثم كان الأستوديو يؤجر على مدار سنوات طويلة إلى أن اشترته الرهبنة اليسوعية وكنيسة الجزويت إحدى أشهر الكنائس في المنطقة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها