الإثنين 2014/04/14

آخر تحديث: 23:59 (بيروت)

كاراباش مخرج معذّب يحمل ندوب الحرب

الإثنين 2014/04/14
كاراباش مخرج معذّب يحمل ندوب الحرب
فانيسا بييتو في "دودجم"
increase حجم الخط decrease
 في باريس قبل أيام قليلة، بدأ عرض فيلم المخرج اللبناني الهامشي المقيم في العاصمة الفرنسية كريستوف كاراباش. عنوان الفيلم "دودجم"، ويمكن للفرنسيين مشاهدته حالياً في سينما "استوديو غالاند" الباريسية الشهيرة. الفيلم يقدّم الممثلة الإسبانية فانيسا بييتو في دور عارضة تصل إلى لبنان للمشاركة في حصّة تصويرية. تتعرّف فانيسا إلى نور، شاب يهوى التنكّر بزيّ امرأة، وتنشأ بينهما علاقة غريبة. لا شيء يجري بالنسبة لفانيسا كما كان مخطّطاً له، فتقع هي في الملل والاستيهامات والأحلام الجنسية، ويمضي هو أيامه مع عشيقه السادي العنيف الذي يضطلع بدوره كاراباش بنفسه.
 
لم تكن الصحافة الفرنسية رحومة مع الفيلم. في مقال منشور في "لو موند"، اعتبرت ساندرين مارك أن الفيلم "مانيفست سياسي بورنوغرافي". ناقد آخر اعتبر كاراباش مخرجاً "أزعر". كاراباش لا يأبه بهذا كله. يصوّر وينتقل إلى مشروع آخر. على الرغم من أنه لا يزال في الخامسة والثلاثين من العمر، ففي سجلّه العديد من الأفلام الروائية والوثائقية، الطويلة ومتوسطة الطول. تراه يتسابق مع الزمن. ينجز الأفلام كيفما اتفق ويعتزّ حتى بأكثر المقالات قسوة في شأنه، محاولاً اقتفاء خطى المخرج الألماني الراحل راينر فاسبيندر الذي صورّ أكبر عدد ممكن من الأفلام في زمن قياسي. يقول كاراباش: "من فيلم الى آخر، أجد نفسي تغيرتُ، كما كان يحصل مع فاسبيندر أو غودار. صار لي طريق ما، وإن لم أبحث عنها بكامل وعي".
 
أعماله محفورة فيها روحية الاختبار وتنطوي على توظيف موازنة ضئيلة جداً وأحياناً غير موجودة. من فقر الإمكانات تستمدّ أفلامه شرعيتها وجماليتها وحكاياتها. سينماه، المصنوعة برعونة أحياناً، تذهب إلى الهدف، من دون أن تتنازل عن حقّها في تعطيل قدسية الأعراف والقفز فوق الموروث الاجتماعي. يمعن كاراباش في تصوير بيئة مسيحية تعرّضت للإقصاء في مرحلة ما بعد الحرب، ساعية للخروج من المأزق. 
الهامش هو مكان كاراباش المفضّل. هذا متنه. في البداية، كان اختار الحشمة الجميلة بعيداً من الأضواء، ولكن مع دخوله عالم "الفايسبوك" ووسائط التواصل الاجتماعي، وجدناه يستغلّ هذا الوسيط للترويج لأعماله وأحياناً بطريقة مفرطة تتناقض مع مبادئ من اختار البقاء في الهامش لتعزيز رؤيته الفنية.
 
السينما، تعلّم كاراباش أسرارها في فرنسا. المخرج الكبير جان روش كان أستاذه في المعهد. على الرغم من إقامته في باريس منذ ما يزيد على العقد ونصف العقد، فهو لا يزال شديد الارتباط بالواقع اللبناني رافضاً التحوّل إلى مخرج مغترب. عندما وقعت الحرب بين لبنان وإسرائيل عام 2006، لم يتردّد في حمل الكاميرا وتصوير ما يستطيع تصويره وسط الخراب والدمار. فكان "منطقة حدودية"، واحداً من تلك الأفلام التي يصعب تصنيفها.
 
ثم أطلّ علينا بـ"وادي خالد"، فيلم قصير عن المنطقة اللبنانية الفقيرة، الواقعة على الحدود بين لبنان وسوريا. تجربة راديكالية، التقط فيها كاراباش يوميات سكّان تلك المنطقة، بعيداً من الأنماط التقليدية في تصوير الواقع. صوّر "شاعرية" المكان مع رغبة دائمة في إزعاج المشاهد ومن دون استدرار العواطف. طريقة كاراباش تقوم على الاقتصاد وعدم التبذير. فمن أجل إنجاز "وادي خالد" الذي بلغت مدته خمس عشرة دقيقة، لم يصوّر إلا عشرين دقيقة. يجد نفسه في هذه المدرسة. كونه تعلم على الشريط السينمائي الخام، فهذا علّمه عدم التبذير. 
 
في إحدى دورات "مهرجان الفيلم اللبناني"، وصل كاراباش متأبطاً فيلمه الروائي "كل شيء على ما يرام". هذا الاستفزازيّ حتى النخاع، صوّر في هذا الفيلم، منذ اللقطة الافتتاحية، وضعيات جريئة أشعلت صالة "متروبوليس" في بيروت أثناء المهرجان. عندما التقيته، غداة العرض، قال لي إنه شعر بالسعادة عندما غضب جانب من الجمهور خلال مشاهدته الفيلم.  
 
عمله التالي، "الكثير من الحبّ سيقتلك"، لم يُعرض في لبنان، وكان مصيره الاستبعاد من دورة 2012 لـ"مهرجان الفيلم اللبناني"، ولكن احتضنته صالة فرنسية، بعدما أجازت الهيئة المخولة لتصنيف الأفلام في فرنسا شريطه الجدلي هذا لمَن بلغوا السادسة عشرة. فتاة روسية (مارينا كيتاييفا) تترك باريس متوجّهة إلى بيروت، وطموحها التحوّل إلى راقصة كاباريه. تلتقي قوّاداً يؤدي دوره كاراباش منتحلاً تصرفات الأزعر اللبناني. لا يضع كاراباش عائقاً بينه وبين مخيّلته الخصبة، بل على العكس، يرمي كل الحواجز جانباً. أسلوبه الذي يحضّه على الانتقام من الواقع اللبناني، يجعله يبرع أحياناً كثيرة في رصد خصوصيات معينة واستخدام لعبة المرايا الفاضحة، في حين يخضع لحالات سينمائية نابعة فقط من ينبوع الاستفزاز في أماكن أخرى. 
 
من أين يأتي هذا الحسّ الانتقامي عند كاراباش؟ للردّ على هذا السؤال، علينا التنقيب في ماضيه: فالسينمائي الفوضوي لم يعرف والديه، كونهما قُتلا خلال الحرب في حادث مفجع. كان برفقتهما عندما انفجرت سيارة مفخّخة رمته في الجوّ ولم يكن يبلغ إلا سنة واحدة من العمر. مذاك، يحمل في جسده آثار الشظايا. لم ينجُ والديه من الحادثة. أما هو فبقي على قيد الحياة. هذه الحرب أثّرت فيه جسدياً وعقلياً. لهذه المأساة علاقة ما بتمرّده. المخرج الشاب جاء من بيئة لا تخلو من المعاناة، لا سيما أنه أبصر النور وتربّى في سنوات الحرب الأهلية. إنه من عائلة متفكّكة ومتشنّجة. كان في عداء دائم مع البيت العائلي والمحيط الذي من حوله. كان ولداً منعزلاً ومفترساً. من هنا أتته الرغبة في أن يثور على المجتمع. وفجأة وجد نفسه في السينما...
عندما تسأل كاراباش، أين يجد نفسه في المستقبل القريب، يقول: "أبحث عن أسلوب، وربما إذا وجدته أتوقف عن العمل". 
 
increase حجم الخط decrease