الخميس 2014/04/24

آخر تحديث: 03:38 (بيروت)

'إسلام الترفيه': الضاحية فضاء تفاوضي

الخميس 2014/04/24
'إسلام الترفيه': الضاحية فضاء تفاوضي
في مدينة ملاهي "فانتازي وورلد" (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
أخيراً! كتاب لبناني يمدّ جسراً متيناً بين الأكاديميا، والحياة اليومية. بين البحث السوسيولوجي الاحترافي، وشأن لا يقلّ أهمية عن العناوين المكرّسة سياسياً وثقافياً. ليس الوحيد بالطبع، لكنه من كتب لبنانية قليلة تُولي "التسلية"، الجدّية النظرية والميدانية، التي تستحق.
"إسلام الترفيه: التفاوض على الجغرافيا والقيم في الجنوب الشيعي لبيروت"، للباحثتين لارا ديب ومنى حرب (صادر بالانكليزية عن Princeton University Books)، يضيء على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومتغيراتها، الشبابية خصوصاً. تلك التي تحدث تحت أنوفنا، منذ أكثر من عشر سنوات، من غير أن نعيها فعلاً، أو ننظّر لها أسوة بمواضيع كالطائفية والاقتصاد الطبقي والحرب الأهلية والجندر...

هنا نرى الترفيه واحداً من أعمدة الأساس في عمارة الحياة عموماً، والضاحية خصوصاً. الحياة الفردية والجماعية، برغباتها وحاجاتها "الصغيرة" المتجاوزة لمصطلحات كالمقاومة، والشهادة، والنصر الإلهي، الخ... هو العيش العادي في الضاحية التي لطالما نزع كثيرون (وأحياناً من أهلها أنفسهم)، عن وعي أو لاوعي، إلى رؤيتها ككتلة مدموغة بختم حزب الله.. وكفى.

ترتسم الضاحية في الكتاب، فضاءً تفاوضياً، مساحة لتفاعل جيل شاب (ممن كانوا في سنّ 18 إلى 30 سنة، العام 2000 والكتاب أنجز في 2009)، فنهضوا – مستثمرين وزبائن – بقطاع الترفيه الذي لا يتعدّى عمره 15 سنة. ضاحية الحدود: الأمنية والدولتية مع بقية بيروت. والجسدية والعاطفية في قلبها، وبين شبابها. ضاحية الديناميات الظاهرة والخفية. ضمنن أهلها وأجيالها، وبين الجنسين.
تقرأ "إسلام الترفيه" وتجد نفسك متسائلاً: كيف كان ليجري هذا التفاوض نفسه، في بيروت أخرى، غير تلك التي نعيشها اليوم؟ بيروت متمتعة بقدر أكبر من الأريحية الطائفية والسٍّلم اليومي؟ ومن ناحية ثانية، تفهم، صفحة بعد صفحة، أنه لو لم تكن في الضاحية حاجة حقيقية إلى هذا النوع من التسلية المضبوطة دينياً في المقام الأول، وبحكم القانون البسيط للعرض والطلب.. حاجة إلى ترفيه مختلف عما يقدّمه شارعا الحمراء والجميزة مثلاً.. لما ازدهر هكذا، أكان عبر حزب الله بشكل مباشر، أو من خلال "بيئته" وشبكاته الاجتماعية.  

لافت في الكتاب قياس التأثير المديني/الحضري في مجتمع معظمه ريفي الجذر، وغالباً ما يبث عن نفسه (أو يبث عنه حزب الله) صورة محافظة ومؤدلجة. إذ تتقلص، حتى العدم تقريباً، فرص أن نشهد، في مناطق شيعية أخرى، مثل هذا المقايضات على الفردية، وما ينتج عنها من مرونة متزايدة لصالح الحرية الشخصية. صعب أن نشهد ذلك مثلاً في النبطية (جنوب لبنان)، حيث "حركة أمل" سُلطة محلية (وإن كان المعروف عن "أمل" أنها أقل تديناً من حزب الله، لكنها لا تقلّ عنه وعياً للهوية الطائفية). كما أن الفرص شبه المعدومة هذه تنطبق على مناطق أخرى في الجنوب والبقاع، حيث النفوذ الأساس هو، كما في الضاحية، لحزب الله، إنما من دون ما تتمتع به الضاحية من جوّ مديني متأثر بالعاصمة.

غير أن "إسلام الترفيه"، رغم فضائله البحثية العديدة، قد يشي بوقوع ديب وحرب في التباسات/أفخاخ لا مفرّ من نقدها، وإن في صيغ أسئلة تبيح مزيداً من من التأمل في الخلاصات.

الاستنتاج الوردي
فمثلاً، يشرح الفصل الثاني عناصر ثلاثة كانت أساسية في إنتاج فضاءات الترفيه في الضاحية بعد تحرير الجنوب العام 2000، والسيطرة عليها: عناصر سياسية، ودينية، واقتصادية. يتحدث ممثلو/مالكو المقاهي ومدن الملاهي والمطاعم عن شعورهم "بالمسؤولية" عن زبائن الصناعة الصاعدة، لجهة التقيّد بمعايير "أخلاقية" وقيمية دينية واجتماعية منسجمة إلى هذا الحدّ أو ذاك مع خطاب حزب الله. وتعتبر الباحثتان إن الجهود هذه أفضت، للمفارقة، إلى مروحة من احتمالات التسلية، والتعددية الترفيهية، طالما أن كل "جديد" يحظى بموافقة "الرقابة"، ما وسّع هامش الابتكار.. ومعه حرية اجتماعية وشخصية.

هنا، يبدو إن الباحثتين نزعتا إلى الاستنتاج الوردي، وهو ليس خاطئاً بالضرورة، لكنه قطعاً ليس التحليل الصحيح الأوحد. إذ يبقى السؤال: هذه التعددية الترفيهية ضمن مجتمع مديني تحت سلطة حزب الله... هذه المرونة في ليّ "القيم" السائدة ومظاهر الالتزام الديني.. في مدن الملاهي والمقاهي ذات الديكور المعاصر أو التراثي-الشرقي... انخراط الشابات والشبان في إعادة تعريف أطر الحميمية العلنية.. وارتياح الآباء والأمهات لخروج أولادهم المراهقين إلى أماكن مضبوطة وأجواؤها "حلال"... هل كسر بعضاً من سلطة الأمر الواقع فعلاً؟ هل هو بذور حرية ناشئة فقط؟ أم أن في ذلك أيضاً تكريساً جديداً لهيمنة قيم حزب الله على الضاحية (على طريقة أنطونيو غرامشي)، دينياً واجتماعياً وسياسياً؟ ألا يعوّم، حصرياً، ما يُمثّل الترفيه المُصادَق عليه من قبل الحزب، وإن توسّعت أطره؟

يخبرنا الكتاب عن لعبة فيديو منتشرة في الضاحية باسم "قوات خاصة"، وعن ملعب Paint Ball بالاسم ذاته. إلا يقترح هذا المثال أن الحزب، فيما يعيد امتلاك التفسير الأعمّ للتكنولوجيا والترفيه، يعمّق ايديولوجيته في نسيج الحياة اليومية، وبأشكال أحدث وأكثر شعبية؟ ها هو رئيس بلدية الغبيري، أبو سعيد الخنسا، يتحدث في مقابلة ضمن الكتاب، عن مسؤولية "توجيه المجتمع". قد لا يكون تعميق الهيمنة الثقافية نتيجةً مخططاً لها بالضرورة، ولا هي تلغي هامش الحرية المتزايد، لكن أليست بالفعل إحدى النتائج؟ تزخر المكتبات بمجلدات من الأدبيات عن ثقافة الاستهلاك مثلاً، وكيف أنها تعزز وَهْم الإختيار في حين أنها في الحقيقة تدفعنا إلى وظيفة واحدة في النهاية، وهي أن نكون مستهلكين معولمين. ألا تنطبق المقاربة نفسها على "تنوع" الترفيه في ظل حزب الله؟

هيمنة ثقافية
وفي "إسلام الترفيه" أيضاً، نقرأ عن توسّع مفهوم الالتزام الديني بأشكال مختلفة، طبقاً لمرجعيات شيعية متعددة، لكل منها مَن "يقلّده" في ما يحلّل ويحرّم. فنتابع لمحة تاريخية عن تصاعد شعبية العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله بين الأجيال الأصغر سناً، كونه الأرحب في مجاراة العصر وأشكال العيش الراهن، لا سيما بالنسبة إلى النساء (وابنه علي ما زال يقوم بالدور نفسه). ونقرأ أيضاً عن تنوع البضائع الاستهلاكية المتوافرة في الضاحية، أميركية وغير أميركية (رغم شعار "الشيطان الأكبر" التقليدي)، إضافة إلى توافر منابر إعلام وتواصل مفتوحة (تلفزة فضائية ومشفرة، إنترنت، هواتف ذكية، الخ..). تلمّح الكاتبتان، محقّتين، إلى أن حزب الله ما عاد قادراً على الإيفاء بما "وعد" به سابقاً من رقابة وتنظيم وسيطرة على ذلك كله، بحكم طبيعة التكنولوجيا المعاصرة.

لكن ثقافة الترفيه هذه، المتزايدة تسامحاً وتراخياً من دون أن يفلت زمامها من أيدي الحزب أو وكلائه في المجتمع، ألا تزيد إيديولوجيا حزب الله تجذيراً في الضاحية، بالضبط لأن أهل المنطقة يشعرون بأنهم يتمتعون بخيارات "حرّة"؟ خيارات مضبوطة، ولو بتسامح أكبر ومزيد من غضّ الطرف عن جلسات حميمة بين شاب وفتاة، أو تواصل أكثر سلاسة بين الجنسين، أو حتى انحسار الحظر الصارم على الموسيقى في بعض المقاهي، وإن تشدد أصحابها في حظر بيع الكحول..

url.gif

يوحي الكتاب نفسه بأنه ما عاد الشبان والشابات من سكان الضاحية في حاجة إلى البحث عن خيارات للتسلية خارج ذلك الحيز المريح والمحمي من الاختلاف، خصوصاً في ظل الفرز الطائفي والأمني الذي يلمّ بالعاصمة كلها. لكن، فلنضع السياسة والأمن جانباً لبرهة، أليس في ذلك تعزيزاً ما لتنائي الضاحية، اجتماعياً وثقافياً ونفسياً، عن بقية بيروت؟ وإذ تطفو الفكرة هذه خلال القراءة، تطفو معها فكرة مشابهة عن الطريق الجديدة مثلاً، والتي تختبر آلية انعزالية/عازلة مشابهة، إنما بأدوات وأشكال مغايرة. والحال، إن بيروت كوعاء مديني، يُفترض بها، وبدينامياتها المدينية نفسها، أن تدفع سكّانها إلى الاختلاط والتمازج. لكن الحقيقة أن المدينة برمتها تتغير، ومعها الضاحية.

وبالعودة إلى مسألة الهيمنة الثقافية، لعل مقاربتها ممكنة أيضاً من زاوية معاكسة يعبّر عنها التساؤل التالي: هذه التسلية الضاحيوية، الجديدة نسبياً، معطوفة على طبقة وسطى صاعدة في المنطقة، لماذا لا نقول إنها تقضم تدريجياً الايديولوجيا المهيمنة، أنها تغيّرها من داخلها لتسوّق قيمها الخاصة؟

في الكتاب عبارة لباحثة أميركية، استشهدت بها كاتبتا "إسلام الترفيه"، عن الهوية الإتنية إذ تعمّقها الفوارق الطبقية، أكثر مما يفعل الانتماء العرقي. لكن، في لبنان، الأرجح أن الانتماء الطائفي، وهو المقياس الإتني المحلي، ليس معمّقاً طبقياً، بل إن الطبقات الاجتماعية في لبنان هي المعمّقة طائفياً/إتنياً. وهذا ما يفسّر، مثلاً، لماذا لم تتّحد البروليتاريا اللبنانية يوماً، دفاعاً عن مصالحها الطبقية في وجه البورجوازية السياسية والاقتصادية.

التسلية لا تموت  
ويبقى لافتاً ومؤثراً كلام أهل الضاحية، خلال مقابلات مع الفريق البحثي، عن أن إحساسهم بالأمان، والذي دفعهم أخيراً إلى البحث عن التسلية، بدأ في العام 2000 "عندما انتهت الحرب". فالحرب اللبنانية، بالنسبة إليهم، لم تنتهِ إلا يوم تحرير الجنوب. وليس في 1989-1990 بعدما أقرّ اتفاق الطائف، ولا حتى في 1992 عندما توقفت النيران الأهلية بشكل كامل. وفي هذه اللقطة الواقعية ما يثبت مجدداً كيف أن اللبنانيين لا يتقاسمون الرؤية ذاتها لتاريخهم، حتى القريب منه، والمفترض أنه مشترك.

وبمناسبة الحديث عن الأمن والأمان، قد يحفّز ما سبق على تساؤل استشرافي يصلح تمريناً بحثياً جديداً: كيف يصمد (أو لا يصمد) قطاع الترفيه في الضاحية، منذ توالي التفجيرات الإرهابية في المنطقة، ومنذ أن كرّس حزب الله تدخّله العسكري في سوريا فملأت صور الشهداء شوارع المنطقة؟ هل من عودة إلى مزاج ما قبل العام 2000، عندما كان الترفيه "المحلي" ترفاً غير مفكّر فيه؟
الأرجح أن لا. فصناعة الترفيه، لا تنكفئ بعد انطلاقها، وإن خفتت مرحلياً. فهي تشتبك بعاديات العيش، ولا تعود قابلة للفرز. تماماً كما لم يندثر شارع الحمراء، رغم كل شيء. الترفيه يغير أشكاله وزبائنه، لكنه، متى ولد، لا يموت.

غير أن هذا لا يمنع التفكير في شبان، هم اليوم بين 18 و30 من عمرهم. فإذا كان "ترفيه الإسلام"، الذي أنجز بحثياً قبل اندلاع الثورات العربية، ارتكز في التحليل إلى من انتموا إلى تلك المرحلة العمرية قبل 14 عاماً، وعلى أكتافهم ووعيهم "الجديد" بُنيت صناعة التسلية في الضاحية.. فإن بين شبان اليوم من يتوسل أهله مباركة ذهابه مع مقاتلي حزب الله للقتال في سوريا.

كيف يرى هؤلاء الشباب الالتزام الديني، والترفيه، و"قيم" الحياة اليومية؟ هل يولد الآن صراع آخر؟ هل ينتقل التفاوض على أسلوب الحياة والأولويات، من ساحة الجيل الجديد مقابل "الحرس القديم"، إلى ساحة الجيل الواحد؟
ربما يحتاج "إسلام الترفيه" إلى جزء ثان، وسيكون مثيراً للاهتمام وممتعاً، تماماً كما الأول.



increase حجم الخط decrease