أقنعة السينما.. مجاز الإخفاء والهويات المزوَّرة

محمد صبحي

الخميس 2020/09/03
مع دخول الوباء شهره التاسع، ألفت العيون منظر الوجوه المكمَّمة في الشوارع والمواصلات ومراكز التسوق. وإن كان ارتداء الكمّامة/القناع، في سياقنا الجنوبي أو العربي، لا يثير جدالاً في أوساط ألفت تغطية الوجوه وحجبها بداعي الستر أو الخصوصية الثقافية، فهو مسألة تفتح أبواب جدل لم ينته إلى الآن في الجانب الشمالي من العالم.


في بعض البلدان الأوروبية الغنية التي شرّعت في السنوات القليلة الماضية قوانين مثيرة للجدل تحظر ارتداء ملابس تغطي الوجه في وسائل النقل العام والدوائر الحكومية والمدارس ومؤسسات الرعاية، يبدو فرض ارتداء الكمّامات إجبارياً على المواطنين في الأماكن العامة بمثابة انقلاب على أعراف رسمية ناشئة عمادها الحفاظ على علمانية أوروبا وطمأنة "الأوروبيين الأصليين" من مخاطر المدّ الديني في القارة التي أضحت وكراً طارداً لإرهابيين عالميين يوزّعون جهادهم المقدّس على بلدان آسيا وأفريقيا.

في جانب آخر من السياق ذاته، نلحظ موجة من الإبداع والعمل المنزلي لابتكار كمّامات/أقنعة من خامات منزلية وأقمشة فائضة، بتصاميم عصرية وشعارات تعبيرية، ليصير قناع الوجه حامل هوية وشعاراً ذاتياً. رمز التعبير الذاتي الذي يعكس عند البعض أحد أكثر المشاعر الإنسانية إزعاجاً، يصبح الآن ضمانة وحماية ضد أكثر الأخطار غير المرئية في واقعنا المعاصر. المراوحة بين الحالين، حال المنع وحال الإلزام، في ظرف زمني قصير نسبياً، معطوفاً على حالة العالم الملتهبة والواقفة على أرض مائرة باللايقين واللاإجابات، تنتج تساؤلات متفاوتة المنطلقات ومحطات الوصول.

مثلاً: كيف نعطي وجهاً لما هو خفي؟ هل يمكن فهم ما هو غير مرئي إذا أعطيناه وجهاً؟ إلى أي مدى يمكن لوجوهنا إخبار هويتنا والإفصاح عنها؟ وماذا يحدث عندما يصبح هذا الوجه غير مرئي؟ أو ماذا إذا، بمساعدة قناع، غيَّرَ المرء وجهه، فهل يعني ذلك تغيُّر هوية الشخص؟ أسئلة قد لا يتوقف البعض للتفكير فيها أو الإجابة عليها، لكن رواة القصص والسينمائيين والمسرحيين طرحوها على أنفسهم منذ قرون.

كان الاستخدام الأول للأقنعة بشكل أساسي دينياً وطقسياً، فقد آمن مرتدوها بأن مَن يضعها يحلُّ فيه الإله أو الروح. الكيانات الميتافيزيقية غير مرئية، تعريفاً وجوهراً، ومن الممكن نقل قواها أو صفاتها مؤقتاً إلى مرتدي القناع، عبر عملية أشبه بالمقايضة: تستغني عن هويتك، لتظفر بهوية ذات قوة أكبر. ما زال في الإمكان رؤية مثل هذا الطقس في الحفلات التنكرية وكرنفالات الأقنعة، حيث لا يكون مرتدي القناع مجهولاً فحسب، بل، أيضاً، يستحيل شخصاً آخر. العمر أو الجنس أو الأصل أو الطبقة، لا يهم أي منها حينها. ترتبط الأقنعة الأكثر تجريداً لحدث شعبي مثل كرنفال البندقية (على سبيل المثال، كما في فيلم الإثارة الإيروتيكية "عيون مُغمضة على اتساعها"، 1999، ستانلي كوبريك) ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد المسرحية للكوميديا ديلارتي (commedia dell'arte)، حيث تأخذ القوالب النمطية مساحتها كاملة للتعبير عن نفسها.

سينمائياً، ما زالت الأقنعة التي تلعب دوراً رائداً في الأفلام، من زورو إلى أبطال مارفل الخارقين، تؤدي المهمة نفسها: تحويل مرتديها إلى آخر. ما الذي سيبقى من باتمان أو ذي فلاش أو بلاك بانثر إذا لم تُحجب هويّاتهم ويُضمن تمويههم؟ إنهم يعملون في الظل، ولا يحتاجون إلى الاعتراف بأفعالهم أو ردّها إلى شخوصهم الحقيقية، فهذا من شأنه إعاقة نفوذهم ونفاذيتهم. بالنسبة إلى خصومهم، فالتنكر ضروري كتضخيم لإساءة فهمهم وشخصياتهم الجروتسكية المعذَّبة، وأفضل مثال على ذلك هو "جوكر" (The Joker)، الذي يحتاج فقط إلى طبقة دهنية من الماكياج لنحت ابتسامته المأسوية على وجهه إلى الأبد. فقط، "سوبرمان" و"وندروومان" يعيشان حياتيهما من دون قناع، لكن في الوقت نفسه بالمحافظة على ألا يكتشف سرّهما أحد. لقد ولِدوا بقوى عظمى. بمجرد أن يخلع كلارك كينت نظارته، يكون هو نفسه الشخص العادي غير المثير للانتباه. بمرور الوقت، مُنح القناع العديد من الوظائف، فاكتسب أدواراً وظيفية في عمليات التمويه والخداع.

الأنا وظلّها
يتميَّز تاريخ سينما الرعب بخطٍّ طويل من مرتدي القناع البارزين، من "ليجر فيس" في "ذي تكساس شانسو ماساكر" (1974، توب هوبر) إلى مايكل مايرز بقناعه الأبيض الخالي من التعابير في "هالوين". ليس من قبيل المصادفة أن سلسلة الأفلام هذه شاعت جماهيريتها في الولايات المتحدة في السبعينيات، زمن القتلة المتسلسلين المروّعين مثل تيد بندي وجيفري دامر وجون واين جاسي. كانت الأقنعة في "مذبحة تكساس" و"هالوين" أكثر من مجرد تمويه، بل رموز تمثيلية جمالية تخضع لعمليات إنتاج الصور والتصنيف والفرز. فقد أعطت تهديداً لاإنسانياً لوجهٍ، دون أنسنته. حتى عندما أصبحت أفلام القتل المتسلسل نوعاً فيلمياً فرعياً، وحاول فيلم مثل "صمت الحملان" (1991، جوناثان ديم) أن يفهم نفسية القاتل صاحب الكاريزما هانيبال ليكتر، كان لا بد من تأكيد وحشيته بقناع مرعب يغطي فمه. لم يكن هذا فقط لمنعه من قضم قطعة طرية من خدّ أحدهم، لكن قبل كل شيء لجعل الخطورة مرئية على وجهه. عندما تراه، تحدس أنه سيهاجمك على الفور دون تفكير. القناع يسحب "الأنا" من ظلاله، يحرمه من طبيعيته التي تعمل، للمفارقة، قناعاً إغوائياً للإيقاع بالضحايا. يعمل القناع، هنا، كلافتة مُنذرة أو إشارة تحذير.


مؤخراً، عرض جوناثان غلازر فيلماً قصيراً بعنوان "السقوط" في منصة البث "موبي". وفيه، ترتدي جميع الشخصيات أقنعة تحجب هويّتها، لتبدو مثل كؤوس مصمتة تضمر الحيرة والخطر. يقول غلازر إنه استوحى الفكرة من صورة لأبناء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يظهرون فيها بارتياح بادٍ أمام نمرٍ صريع اصطادوه خلال رحلة صيد في عام 2014.

استوحى غلازر أيضاً من لوحة لفرانسيسكو غويا بعنوان "نوم العقل ينتج وحوشاً". تُظهر اللوحة شبه البيوغرافية الفنانَ نائماً ورأسه على منضدة عمله، وفوقه، تدور مخلوقات تشبه الخفافيش. تعطي هذه الخلفية فيلم غلازر، الذي تم الانتهاء منه في نهاية العام الماضي، قيمة نبوئية على نحو غريب. فحكايته حول مجموعة رجال مقنَّعين يقودون رجلاً مقنعاً آخر ويرمونه في بئرٍ، لا ترمز فقط إلى فعل الصيد، ولكن أيضاً إلى طرد الآخر. من خلال الأقنعة، يتلاشى الغشاء الرقيق بين الأنا وظلّها. يصبح الآخر أيضاً ذاتياً. الصيَّاد والمُطارَد واحدٌ.

قبل شهرين تقريباً، وفي خضم الجدل - المعقول حيناً والسخيف أحياناً - في الجانب الغربي من العالم حول ضرورة الالتزام بارتداء أقنعة الوجه في الأماكن العامة، ظهرت حجج مهذّبة لإقناع الرافضين والمتشككين - بدعوى الأمن أو قداسة الحريات الفردية - من بينها أن ارتداء القناع ليس اعتداء على حرية الآخرين في ضرورة معرفتهم هوية الشخص المقابل، بل يمكن النظر إليه كعلامة لطف وتواضع وحرص: أعرف أنني يمكن أن أكون خطراً عليك، لذا أرتدي هذا القناع. رغم ذلك، استمر البعض في أخذ خطوة إلى الوراء من ذلك المسعى الضروري واللازم لمكافحة الوباء، بحسب توصيات منظمة الصحة العالمية. حجّتهم بسيطة: بدلاً من الابتسام لأحدهم أو إلقاء تحية غير ملفوظة، علينا الآن تغطية أفواهنا، وهذا غير مقبول. ما قد يبدو تافهاً لمواطن عربي منكوب بقدَرَه الذي يفرض عليه هموماً أقسى وأفظع، يختزن بداخله تساؤلاً مهماً لا تنقطع صلته بدائرة الانتهاك الطوعي والقسري التي يختبرها عموم الشعوب المحرومة من ممارسة حرّيتها: هل نفقد أنفسنا إذا لبسنا كمّامة/ قناعاً؟ هل عجز المرء عن التحكم بجزء من جسده وتفعيل وظائفه التعبيرية، يعني خروج هذا الجزء عن العمل أو إيقاف البحث عن مقاربات جديدة للغة الجسد؟

أليخاندرو جودوروفسكي سينمائي دائم التشكك في الخط الفاصل بين الحقائق المختلفة في أفلامه السوريالية، مثل "إل توبو" و"الجبل المقدس" و"رقصة الواقع"، مدّ مبكراً خيط السؤال المجرَّد في عام 1950، مستعيناً بفنان البانتومايم الفرنسي مارسيل مارسو لجعل التجربة محسوسة. النتيجة، فيلم "صانع القناع" (1959)، الذي يرينا ما يحدث عندما تفقد وجهك فعلياً. في تمثيل إيمائي كلاسيكي، يوضّح مارسو مختلف تعابير الوجه، بمرونة وتحكم كاملين. ولكن بعد ذلك لا تزول ابتسامته. يكافح ويكافح مع أناه الأخرى. جسده يبكي وينتحب، في حين تستمر ابتسامته على وجهه. في ذلك، هو الأب الروحي لـ "فارس ظلام" كريستوفر نولان و"جوكر" يواكين فينيكس. مأساة القناع الذي يصلب صاحبه.

أقنعة شهيرة
يحتوي تاريخ الفيلم على العديد من أنواع الأقنعة، التجميلية أو الفولاذية أو حتى بشرة شخص آخر. للعيون أقنعة، أكثرها شهرة في تاريخ الفيلم، هو على الأرجح قناع زورو، البطل الشعبي المكسيكي دون دييغو دي لا فيغا الذي يحارب الفساد والظلم في الغرب الأميركي القديم، بقبعته وعصابته وسيفه وقناع أسود حول عينيه. في عام 1920، ظهر لأول مرة في فيلم "The Mark of Zorro". كان زورو أيضاً نموذجاً لأبطال خارقين مقنَّعين سيأتون في وقت لاحق، مثل باتمان. في قصة باتمان الأصلية، يُقتل والدا بروس واين بعد رؤية هذا الفيلم (فيلم زورو) مع ابنهما البالغ من العمر ثماني سنوات في صالة السينما. أعطى القناع باتمان هويته الجديدة.

وللفمّ أقنعة أيضاً. باستثناء كل فيلم تدور أحداثه في مستشفى وفيلم وبائي مثل "عدوى"، ليس شائعاً أن يلعب قناع فمّ الجرَّاح دوراً بارزاً في مسار الأحداث. لكنه يفعل في فيلم "بيبر ماسك" (1990)، وهو تشويقي قاتم عن الهويات، حيث ينتحل عتّال في مشفى لندني شخصية طبيب يشبهه شكلياً، ، وبمساعدة بعض الكتب الطبية والخدع وسلسلة متزايدة من الأكاذيب القاتلة، يخترق عالم الطب، قبل أن يطارده ماضيه. أقنعة الفمّ الأيقونية الأخرى، تتضمن بالطبع قناع آكل لحوم البشر هانيبال ليكتر في "صمت الحملان" (1991)، وقناع الأكسجين الشبيه بجمجمة من فيلم الديستوبيا "ماد ماكس: فيوري روود" (2015، جورج ميلر).

أما القناع الكلاسيكي الذي يغطي الوجه كله، ويخفي مرتديه، ويعيّن هوية جديدة أو قوى غير متوقعة؛ فهو جزء لا يتجزأ من تاريخ فيلم الرعب الحديث. من قناع الأشباح في سلسلة أفلام الرعب والمحاكاة الساخرة "سكريم" (بدءاً من عام 1996) المستوحى من لوحة إدوارد مونش الشهيرة بنفس الاسم، إلى القتلة المتسلسلين الأكثر خطورة مثل مايكل مايرز من سلسلة أفلام "هالوين" (بدءاً من عام 1978)، أو قناع هوكي الجليد لجيسون فورهيس من سلسلة أفلام "الجمعة 13". لكن ثقافة البوب لم تقتصر في أقنعتها السينمائية على أفلام التسلية ورعب الليالي القمرية، بل داعبت أحلام يقظة المتمرّدين حين ​​ابتدعت أيضاً قناع جاي فاوكس للمتمردين الأناركيين في فيلم "V for Vendetta" (2005)، ومنه إلى الشوارع وساحات الثورة حول العالم. أصبح القناع رمزاً سياسياً للحركة الاحتجاجية المعروفة باسم "أنونيموس" Anonymous.

أخيراً، فالخيال السينمائي لم يقتصر في أقنعته على الممكن واقعياً منها. فرغم استحالتها في الحياة الواقعية، إلا أن عمليات زرع الوجه الكامل اجتذبت بقوة مخيلة صانعي الأفلام، ليصبح المجاز واقعاً مجسّداً. القناع يصير هو البشرة نفسها، بشرة جديدة كقناع متكامل، وكهوية جديدة معصومة. المثال الأقرب والأسرع حضوراً إلى الاستدعاء، هو فيلم الأكشن "Face / Off" (1997)، حيث يتلبّس العدوان اللدودان جون ترافولتا ونيكولاس كيج هوية (ووجه) بعضهما البعض بفضل مؤثرات بصرية لافتة. غير أن بداية تلك الحيلة السينمائية تعود إلى قبل هذا التاريخ بخمسة عقود كاملة، تحديداً في فيلم النوار الكلاسيكي "دارك باسيج" (1947)، حيث نرى فقط وجه الممثل همفري بوغارت عندما تُمنح شخصيته وجهاً جديداً. لكن التوظيف الأكثر إثارة للإعجاب على الإطلاق، يتحقق في التحفة اليابانية "وجه لآخر" (1966، هيروشي تيشيغاهارا)، وهو فيلم مذهل بصرياً حول رجل، يلبس قناعاً حيّاً لوجه رجل آخر، ثم يبدأ تدريجياً بفقد إحساسه بالخير والشر، ويصبح غريباً عن نفسه تماماً، بعدما تخلّى عن وجهه الأصلي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024