مسيحية بولس الخوري وإسلامه

أحمد بيضون

الخميس 2021/11/25
الحوار في ما يتعدّى الديانتين(*)
يريدنا كتاب (الراحل) بولس الخوري أن نوغل، عند اختيار مدار للحوار بين الإسلام والمسيحية، نحو ما هو جوهري. وما هو جوهري، في عرف هذا الباحث العارف، إنما هو الإيمان. وهو يرى أن إدراك هذا المدار يقتضي منّا الوصول إلى ما وراء المنظومتين الدينيتين: المسيحية والإسلامية. هاتان المنظومتان ينسبهما المؤلف إلى الثقافة، أي إلى بيئة يستوي فيها الروحي موضوعاً فيعود غير ماثل في الروح أولاً. وإنما هو يَدْخلها – إذا دخل – من أبواب مفتوحة على الخارج ويأتي إليها بحمولات العالم اللاشخصي. ومع أن المؤلف يفسح من كتابه معظم صفحاته لوصف المنظومتين المشار إليهما وبسط ما فيهما من عناصر وما تتشكلان به من علاقات وتنطويان عليه من دلالات، فإن بعض عباراته تعاملهما على أنهما أشبه بعبء على الإيمان وأَوْلى بأن تعتبرا عقبة أو شبكتين من العقبات، بالأحرى، في طريق الحوار. وما ينصبه الباحث في وجه المنظومتين المشار إليهما إنما هو منظومة وقائع ثالثة يراها غلابة ويبدو منه ميل إلى التسليم بسلطانها، وهي ما يسميه، هو وغيره، الحداثة.

المنظومتان الدينيتان تبدوان إذن مأخوذتين بين محنتين تمعنان فيهما طعناً ولكن على نحوين مختلفين. الحداثة تفرض عليهما حالة من عدم التكيف العملي أو من الغربة المشوبة بشعور بالتخلّف عن غايات عاد من غير الجائز التقصير عن إدراكها. هذه الغايات تتمثّل ببنى مادية غامرة الحضور، ولكنها تتمثّل أصلاً، فيما يتعدّى البنى المادّية، ببنية عقلية وبشبكة قيم وأهداف تمثّل كلها انقلاباً صريحاً على تلك التي كان يتحكم بها الدين. والمؤلّف – وإن يكن لا يفر الحداثة من نقد المؤمن المتمسّك بخياره الروحي –  ينتهي (أو هو يبدأ) بانحياز إجماليّ إليها على أنها سمة العالم الحاضر. وهذا انحياز يقف به، على نحو غير خفيّ، في مواجهة المنظومتين العمليتين المسيحية والإسلامية ويصحّ اعتباره استعداداً لإعادة نظر جذرية في “العقلية” التي تتبدّى على أنها علّة افتراقهما عن مبادئ الحداثة.

على الجهة الأخرى من المنظومتين الدينيتين، يتراءى الإيمان على أهبة نقد من طراز آخر ومن منبع مغاير، على الأخص. فالإيمان إذ يباشر عمل نقد داخلي لمنظومة دينية يرى انتماءها إلى نسبية الثقافة، إنما يفعل باسم المطلق الذي هو موضوعه. وهو يردّ بالنقد ما كانت المنظومة نفسها قد ابتلته به من وجوه التحوير وهي تسعى إلى تجسيمه في أفعالٍ حسّية وبنى مادّية. على الرغم من  هذا التغاير في طبيعة النقدين الإيماني والحداثي ومصدرهما، يتبديان، في حجاج بولس الخوري، متضافري الفاعلية، متآزرين لتطويع المنظومتين الدينيتين لغاية الحوار المثلى ولأغراضه المحدّدة أيضاً. وهما، أي الإيمان والحداثة، إذ يفعلان هذا الفعل ويتآزران هذا التآزر ينتهيان إلى الغضّ الواضح من شأن المنظومة الدينية ومقامها، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية، بالقياس إلى سموّ الإيمان وإلى ضرورة الحداثة وحتمية التحديث ولو محتاجين إلى ترشيد.

أوّل الأسئلة التي أجيز لنفسي طرحها على هذا الكتاب يتناول، على وجه التحديد هذا التمييز الذي هو عماده ما بين الإيمان والمنظومة الدينية. لا أسأل عن شرعية التمييز، فلطالما أبرزت شرعيته الخبرة: خبرة أهل الأديان وخبرة نقّادها. ولا أسأل عن الحقّ في امتحان المؤمن صلاح المنظومة الدينية بمحكّ الإيمان، فهذا – فيما يتراءى لي – حقّ يتعذّر الطعن فيه. وإنما أسأل عن الصفة العملانية لهذا التمييز بما هو، في نظر بولس الخوري، الباب الأوسع للحوار المسيحي الإسلامي. هل يبقى الإيمان موضوعاً ممكناً لكلام (هو، في الحالة التي نحن بصددها، حوار ذو طرفين) عندما يحصل عتقه من المنظومة التي تجسّمه منظوراً وتصوغ الصور الموضوعية لتجلّيه؟ ألا يصبح الإيمان، عند تمام هذا العتق، أشبه بالنقطة الهندسية التي لا يعرف لها قِوام إذا خفي الخطّان اللذان هي ملتقاهما؟ هل يسع المتحاورين مباشرة الكلام في إيمانهما من غير أن يباشرا العودة كلّ إلى منظومة تصف الإيمان موضوعاً وخبرة وصيغاً لعلاقة أو لعلاقات وعواقب مستتبعة؟

هذا أوّل الأسئلة وأَوْجَهُها، في نظري، لم أقاوم الرغبة في تقديم طرحه على كلام لي في تقريظ الكتاب أراه لا يقلّ أهمّية عن جملة ما يسعني أن  أطرحه عليه من أسئلة. وهو كلام على ما أحبّ تسميته رياضة الإخلاص التي يقدّم هذا الكتاب نفسه وكاتبه على أنهما مثالان لها. وما أسميه رياضة الإخلاص هو هذا الجهد المنتشر في كل فقرة بل في كل عبارة لفهم الغير حقّ فهمه مع حفظ النفس. فلا أثر هنا لظلم يداخل أصل الموقف من الإسلام أو يقع على المسلمين من جانب هذا المسيحي المؤمن. ولا أثر أيضاً لتزلّف يراد به تهوين ما ليس بهيّن أو استدراج من لا يحمله إيمانه على القرب. وفي هذه الرياضة، يبدو المؤمن ضالعاً في إيمانه إلى درجة تسهّل عليه ما ليس يسهل على ذي دين: أي هذه الحرّية في معاملة المنظومة الدينية التي يصدر عنها وفي الكلام عليها وعلى المؤسسة التي تجسّد حضورها في العالم وترعاه. وما أسمّيه ظلماً للغير يبرأ منه هذا المؤلّف، إنما هو خلاف العلم بقدر ما هو خلاف الإنصاف. ويزيّن لي هذا الفهم المعنى القرآني للظلم: وفيه يبدو الأخير، بما هو أخ شقيق للظلام، مرادفاً للجهل وخصيماً للصواب. نحن مع بولس الخوري في حوزة العالم أو، على الأصحّ، في حوزة العارف، وهذا ما يمنح الإخلاص ههنا تمام معناه.

ومن قبيل التشبّه بالكريم الذي هو موضوع حديثي، أمضي قدماً في أسئلة أطرحها على الكتاب. وفي تخميني أن بعضاً من أسئلتي اكتسب بعض مسوّغه من طول الزمن الذي مضى على ظهور هذا الكتاب أوّل مرّة. فمن الصفحات الأولى، نشعر أن المؤلف مقيم في مناخ الحداثة المنتصرة، بما هي نظام لجانب من العالم وبما هي مثال يرتجي تحقيقه الجانب الآخر، وفي مناخ ما واكب ذلك الانتصار من انسحاب غربي (أو ممّا بدا أنه كذلك) من قيم الدين… والراجح عندي أن هذا المناخ كان سيتغير كثيراً أو قليلاً لو أدرك الكتاب ما أطلق عليه، بعد حين، اسم الصحوة الإسلامية وما جرّته هذه الصحوة من عقابيل شرقية وغربية ما نزال نعاين ونعاني نارها ودخانها إلى يومنا الحاضر. يدرك القارئ المتنبّه أن الكتاب الذي ظهرت طبعته الأولى سنة 1973، ألّف في عشايا هذه الصحوة لا في إبّانها وأنه نشر قبل أن يبلغ المثال الحداثي أيضاً ما بلغه في العقود الثلاثة الأخيرة من تضعضع وعجز عن حفظ ما كان ممتّعاً به في المرحلة السابقة من ظاهر الإجماع. ذاك – أي اختلاف الحال بين أمس هذا الكتاب ويومه – أمر كان يحسن تنبيه القارئ، في تصدير الكتاب أو في مقدّمة جديدة له، إلى وقعه على مضامين النص ونَفَسه.
●●
وأما الأسئلة التي طال تلويحي بطرحها على هذا الكتاب فقد يجوز لي إجمالها في واحد: هل أخذ التعدّد حقّه في كل من المنظومتين المسيحية والإسلامية عند وضع كل منهما بإزاء الأخرى للنظر فيما يستبقيه منهما حوار يرتكز، في ما يتعدّاهما، على وحدة الإيمان وينظر من علياء هذه الوحدة أو من عمق أفقها، بالأحرى، في أنسابهما الثقافية؟ لم يهمل المؤلف ما في المسيحية من مذاهب كبرى وصل الأمر باثنين منهما (هما الكاثوليكي والبروتستانتي) إلى إطلاق اسم “الديانتين” عليهما، ولو أن هذا نادر في الاستعمال العربي. يكرّس المؤلف فقرات للحديث عما تفترق به الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية. وهي فقرات مشربة إنصافاً وحسن تمييز للجوهري من العرضي، شأنها في هذا شأن سائر الكتاب. ولكن حين ينزل رب المسيحيين ورب المسلمين أو صورتا الرب الواحد بالأحرى إلى ساحة الحوار، فإن الصورة المعتمدة للرب المسيحي، في هذا الكتاب، تعود – في ما يبدو لي – صورة كاثوليكية. وهو ما ييسّر وضع الربّ المتعالي، إله المسلمين، في مواجهة الربّ المتأنّس إله المسيحيين والقول بوجود توق إنساني إلى التأله في المسيحية يراه المؤلف مفقوداً من الإسلام.

وما أراه أن هذا تشخيص تقبل زواياه الكثير الكثير من التدوير وذلك من الجهتين المسيحية والإسلامية معاً. فمن الجهة المسيحية، تبدو الحظوة بالنعمة وبالخلاص، عند البروتستانتيين، مرهونة بإرادة ربانية مطلقة الحرّية، لا تغيرها أعمال البشر. وتبدو القداسة مختصّاً بها الله فلا تعدّ حالّة في مخلوقاته. وتظهر إرادة الله لغزاً عصيّاً على الترجمة أو يبدو صمته أشبه بريح باردة تشيع الوحشة في عالم داخلي أو خارجي ينتظر كلمته ونوره بلا طائل. ظهر هذا الشعور بالشكّ الملازم للإيمان وبالغصص أو بالوحشة حيال صمت الله واستعصاء مشيئته وخططه على فهم البشر في تعبيرات فكرية أو فنية متناهية الروعة عند بروتستانتيين أو ذوي أصول بروتستانتية من أمثال سورين كيركيغارد وبعده فريدريش نيتشه في الفلسفة أو إنغمار برغمان في السينما، إلخ. الإيمان ههنا علاقة شخصية بالخالق، ولكن هذه العلاقة قد يشاء لها الله الاضطراب أو الانقطاع فيبدو الله وكأنه قد خرج من نظام العالم ومن قلب الإنسان حتى ليمكن القول إنه قد مات. زبدة القول أن الله في هذا العالم البروتستانتي، بمرجعيته التوراتية الغامرة الحضور، لا تطّرد فيه تلك الدرجة من القرب والألفة التي يصف بها المؤلف إله المسيحيين وتزكّيها صورة الطفل الإلهي ابن الإنسان.

ولعلّ في غلبة الحضور الأميركي، وقبله البريطاني، على ذاك اللاتيني في العالم الإسلامي، وهي غلبة استغرقت القرنين الفائتين، ما يزيّن الاهتمام الخاص بلاهوت البروتستانتيين وتقاليدهم عند البحث في احتمالات الحوار المسيحي الإسلامي وفي شروطه. فحين بدأ البحث في الردّ على ضربة الحادي عشر من أيلول، قدّم الأميركيون مبدأ الحرب العادلة وكأنه اعتذار مسبق من مسلمي أفغانستان والعراق الذين سيتعين قتلهم في الأعوام التالية. أي أن جانباً من الإعداد للحرب تولاه اللاهوت البروتستانتي، وهذا مع العلم أن المرجع كان أوغسطينوس وتوما الأكويني أي كان مسيحياً سابقاً على الإصلاح اللوثري. هذا يلفت أيضاً إلى الحضور الضئيل، في كتاب بولس الخوري، للحرب وللعنف بما هما موضوعان للحوار بين الديانتين بعد أن ظلا زمناً متمادياً ينشران ظلالاً رهيبة على ساح العلاقة بين العالمين. على التعميم، لا تبدو أميركا بلادأً كشف الدين سحره عنها إلى الحدّ الذي عرفته فرنسا وتكوّن من جرّائه تصوّر بين تصوّرات للحداثة هو الذي يأخذ به المؤلف.

فإذا كان هذا المعبود البروتستانتي قد ارتدّ خطوات نحو ربّ العهد القديم واقترب بذلك خطوة من ربّ القرآن، فإن هذا الأخير ليس مثابراً على التعالي ولا معلياً أسوار التغاير بين ما هو وما هم البشر إلى الحدّ الذي ينسبه إليه المؤلف. الله في الإسلام يحتمل، بما هو المطلق، مطلق التفارق بين صفاته. ويُنْسب إلى علي بن أبي طالب وصف القرآن بأنه “حمّال أوجه”، وهذا وصف يصحّ، أوّل ما يصحّ، في ربّ القرآن. ونكاد لا نحتاج إلى الإشارة إلى أن العزيز الجبار القهار المتكبر هو نفسه الرؤوف الغفّار الرحمن الرحيم. وقد أمكن أن يقول النبي لصاحبه وهما لاجئان في الغار بعد أن خرجا من مكّة وخرج في طلبهما المشركون :”لا تحزن إن الله معنا”. حضور الله هذا يطلبه المؤمن في كل حين، إيناساً لوحشته أو قضاءً لطلبته أو ردّاً لأذيّة يخشاها. وهو عند ذوي الإيمان حضور شخصيّ لله، يحصل في القلب، شأنه شأن ذاك الذي ذكره النبي لأبي بكر في الغار، وليس هو بالمدد غير الشخصي. فالله يقول عن نفسه إنه “قريب” يجيب دعوة الداعي إذا دعاه وإنه الذي بذكره “تطمئن القلوب” وإنه “يحبّ المؤمنين” ويحبّونه. ولا يمنع ذلك أن يكون الله هو من يُرى الجبل “خاشعاً متصدّعاً” إذا نزلت عليه كلمته ولا يمنع أن يأخذ الله المذنب بذنبه إذا لم يشأ أن يغفر له وان يذيقه عذاب النار.

هذا التقابل بين صفات توحي بالمغايرة والبعد وأخرى توحي بالقرب إلى حدّ التشبّع أو الاستغراق ينعكس اختلافاً بين المدارس والمسالك في الإسلام في تقدير الإمكان المتاح لاقتراب البشر من التأله أو القول، بخلاف ذلك، بامتناعه المطلق عليهم وصولاً إلى تكفير القائلين بشيء من قبيله. في الإسلام الشعبي الذي تعرفه مشارق الأرض ومغاربها، يكثر أن يوجد بشر ذوو كرامات وقد تتنزّل الكرامات في الأشياء أيضاً. والكرامة هذه قبس من الحضرة الربّانية يحلّ في الشخص أو في الشيء فيجعله ذا بركة أو شفاعة، وقد يحدث على يديه ما يدخل في باب المعجزات. حين نجيل بصرنا في ما يصحّ أن يسمّى قارّة الباطن في الإسلام، وهي المشتملة على أنحاء متباينة على التشيّع والتصوّف، على العرفان والإشراق، نقع على تداخل لا يخفى أثره، في كلّ حال، ويتعذّر فصمه، في الأحوال القصوى، ما بين الإلهي والبشري.

يبدأ هذا، عند الشيعة مثلاً، بإطلاق ألفاظ من قبيل المتألّه والربّاني والمقدّس على أشخاص وأشياء. ثم يرتفع عندهم درجة مع الأئمة المعصومين الذين لا تبدو سلسلتهم بعيدة، في البعض من أمّهات الكتب الشيعية، عن تمثيل حضور إلهي في نسيج العالم: حضور منصوب، في أطوار متتابعة بغير انقطاع، بين بداية الخلق ونهايته، إذ يبدأ قبل آدم وتقطّعه النبوءات حقباً لكلّ منها ظاهرٌ وباطن ثم يدخل، بعد محمّد، طوراً جديداً هو طور الحقيقة الباطنة مع الأئمة الإثني عشر ويمثله، في عصر الغيبة، المهديّ المنتظر، وهو حيّ وغير ظاهر، وتطلق عليه (بين ما يطلق من أسماء وصفات) صفة “بقية الله”. هذا قول نجد ما يعادله، بمنحاه الحلوليّ عند صوفي كبير من أهل السنّة هو ابن عربي وعند سواه من أصحاب الطرق. وفي كثير من أمّهات النصوص الشيعية، الإيرانية بخاصّة، لا تبدو الحدود محكمة الرسم ، لهذه الجهة، ما بين التشيّع الإثني عشري ومن يوصمون من الفرق الشيعية بالغلوّ في الأئمّة أو في اوّلهم على التخصيص. ولا تعدّ كشفاً الإشارة إلى الشبه بين المهدي والمسيح الذي تشترك أديان التوحيد الثلاثة في القول بظهوره في آخر الزمان. وهذا شبه أفضى بأصحاب العقيدة المهديّة (وهم ليسوا من الشيعة حصراً) بالقول بظهور المهدي والمسيح معاً: يتساندان، بأكثر الصور عنفاً، في ملئها قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.

في هذه الحالات الإسلامية كلها، يتبدّى إمكان استيلاء الله المباشر على قلوب البشر وأيديهم وعمله من خلالهم ما ليس لهم أن يعملوه لو ألزموا حدود طبيعتهم البشرية. يتبدّى ذلك في الإسلام الشعبي وأكثره سنّي وفي التصوّف والعرفان وأكثرهما سنّي أيضاً وفي التشيع بسائر مدارسه وأوساطه. فإذا وقفنا عند هذا المنحى المنتشر في الإسلام وقوله بإمكان نوع ما من الاستدخال البشري للألوهة وقرنّاه إلى استعادة “ربّ القوّات” شيئاً كثيراً من تعاليه وشدّة بأسه في المسيحية البروتستانتية، أصبحت دعوتنا إلى تلطيف مواجهة نراها مفرطة الحدّة بين صورتين للرب ولعلاقته بالبشر، إحداهما مسيحية والثانية إسلامية يراهما له بولس الخوري دعوة غير ظالمة ولا مشتطّة. أو ان هذا ما نأمله، في الأقلّ. وهي، في كل حال، دعوة تؤول إلى تسهيل الحوار ما بين الديانتين إذ تستكثر من مساحات اللقاء بين المنظومتين وتستبعد الإيحاء بلزوم الخروج منهما معاً نصرة لقضية الحوار. أي أن عمل التقريب الذي نقول بابتدائه من صورتي الرب وإمكان تألّه البشر إنما يصبّ مزيداً من الماء في طاحون بولس الخوري. وكيف لهذا أن يكون عندنا إلا مدعاة للغبطة. فهذا، وأيم الحقّ، طاحون مبارك!

لم أكن في هذه القراءة محامياً عن دينٍ أيّاً يكن. فمعاذ الحق أن يحتاج إلى محامٍ دين يتناوله بالتمحيص والتشخيص بولس الخوري. ولا أهلية لي لتمثيل دين ما: فلا هذا يقبل مني ولا أنا طالبه. وإنما كنت مجرّد قارئ لهذا الرجل: لا أنا أيضاً من أهل الصناعة ولا أنا أمّي فيها. لست من أهل التديّن أصلاً ولكن أشغف بالخبرة الدينية، على عمومها، ويجذبني الصدق فيها بما أنا إنسان ولكن يستوقفني الزور حين يظهر فيها أيضاً بما أنا من مزاولي الدرس الاجتماعي. وقد كنت مع بولس الخوري في دائرة الصدق المحبّ حصراً. فعسى أن يتقبّل مني قراءة الإنسان، ويبقى له، بطبيعة الحال، أن يرفض خلاصات الدارس إذا لم يجد فيها ما يقنع أو يفيد.

(بيروت في 15-16 أيلول 2011)

(*) قراءة لكتاب:
Paul Khoury, Islam et Christianisme, Dialogue religieux et Défi de la Modenité, Collection Pensée religieuse et philosophique arabe, L’Harmattan Paris 2011, 3ème edition (1ère edition: 1973). قدّمت في جلسة مناقشة للكتاب وتكريم لصاحبه في سرايا الفنّ، بكفيّا، في 16 أيلول 2011. نعيد نشرها في "المدن" بعد رحيل بولس الخوري، بالاتفاق مع الكاتب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024