فصل من سيرة فتوّة طرابلسي: حياة يميتها غياب لغتها

محمد أبي سمرا

الجمعة 2021/09/10
روى عبد الله الطواشي –وهو فتوّة معروف في أحياء القبّة الطرابلسية، ونشرت "المدن" حلقة أولى من سيرته، الأربعاء 8 أيلول الجاري– أن تكاثر المسيرات الاحتجاجية التي كان يدعو إليها قبل شهور قليلة من انتفاضة 17 تشرين 2019، ويطلقها سيّارةً على دارجات نارية، متصدرًا مئات الشبان والفتيان المفقرين وعائلاتهم، والمتسربين من التعليم المدرسي، والمتبطلين في الشوارع والمقاهي الشعبية في أحيائهم السكنية، ويتزايد عددهم فيما هم يجوبون على دراجاتهم الصاخبة أحياء طرابلسية وشوارعها؛ روى عبد الله إذًا إن تلك المسيرات المتكاثرة أخذت تثير لغطًا بين أهل المدينة، وتساؤلات بين لفيف زعمائها السياسيين وبطاناتهم: من هم هؤلاء، من يحركهم، وماذا يريدون؟!

رعاية الله وأمنه
وفي واحدة من تلك المسيرات أو العراضات السيّارة في شارع عزمي في وسط طرابلس التجاري، لم يسمع الطواشي رنين هاتفه المحمول في جيبه، فيما هو يتصدر المسيرة وخلفه وعلى جانبيه تصطخب هادرة مئات محركات الدراجات النارية، وعلى متن كل منها اثنان أو ثلاثة شبان أو فتيان من لفيف فتوّته في أحياء القبة وسواها، مطلقين صيحاتهم في حال من الهياج والفرح المتوتر.

والحق أن هذا الوصف المادي لمسيرات الطواشي لم يذكر منه محدثي سوى كلمات قليلة عابرة. وهو يعلم على الأرجح أن هذا النمط من العراضات الاحتجاجية هبَّ على أحياء بيروت وفي ضاحيتها الجنوبية بقوة لافتةٍ، أقله منذ ما بعد حرب تموز 2006، بعدما استعملت الدراجات النارية سلاحًا لوجستيًا فاعلًا في تلك الحرب. ثم تحوّل ذلك السلاح مذّاك معبود شبانٍ وفتيان في بيئة "الثنائي الشيعي" في مسيراتهم وعراضاتهم الاحتجاجية وحملات التعبير المنظمة عن سخطهم وغضباتهم، وسواها من حملات تخويف الجماعات الأخرى، ترويعها وتأديبها، حسب حاجات منظمتي "الثنائي" ومواقفه السياسية.

وروى الطواشي الطرابلسي أنه فوجئ أثناء المسيرة في شارع عزمي بدورية من مخابرات الجيش اللبناني تتقدم منه، فيحاصره عناصرها محاولين توقيفه. والعارف في أحوال وشؤون مثل هذه العراضات لن يفوته أن يلاحظ غياب أي تدخل أمني رسمي، إلا نادرًا، في مثيلاتها الجوّابة في شوارع بيروت وضاحيتها الجنوبية. وفي شارع عزمي كان من البديهي أن يلتفَّ جمع من شبان المسيرة الصاخبة وفتيانها حول فتوّتهم ورائدهم الطواشي المحاصر، لحمايته، فيما راح ضابط الدورية الأمنية يسأله إن كان هو الداعي إلى المسيرة ومنظِّمها، وعن غايته منها، ومن يقف وراءه ويحرضه ويدعمه، ولماذا لم يجب على الاتصال الهاتفي الذي تلقاه قبل وقت قليل من أحد "كبار الأمنيين في طرابلس"؟! وهذا حسب الطواشي الذي قال إنه جاوب سائله الضابط: وكيف يمكنني سماع رنين هاتفي في هذا الصخب كله؟! ومسيرتنا هذه سلمية، والشبان هؤلاء فقراء بلا عمل، ولا يطالبون إلا بلقمة العيش بكرامة، وليس لنا سوى الله عزَّ وجل يدعمنا ويقف وراءنا وفوقنا وأمامنا.

وعندما حاول عناصر الدورية الأمنية اصطحاب الطواشي إلى مركزهم الأمني، قال لهم إنه لا يمانع طلبهم، لكن عليهم أن يسألوا الشباب ويستأذنوهم في الأمر. ووسط هياج شبان المسيرة وفتيانها رافضين طلب الأمنيين، وقائلين إن المسيرة كلها ذاهبة خلفه إلى المركز الأمني، انفض رجال دورية مخابرات الجيش، فغادروا المكان، وتابعت المسيرة تجوابها مهلِّلة مكبرة، فيما يرفع شبانها وفتيانها أصابعهم بشارات النصر منطلقين في شوارع أحياء طرابلس.

ضابط أمني وأبو عائشة
وكان المقهى الصغير المقفل بعدُ، والذي جلسنا على مقاعد خشبية ضخمة واطئة أمامه، منصرفين إلى محادثة عبد الله، قد فتح أبوابه. والشَّاب الذي فتحه كان مبلل الشعر بالماء، كأنه قبل وقت قليل استيقظ من نومه المتأخر. وهو رفض أن نغادر رصيف المقهى ومقاعده، فاستبقانا جالسين عليها قائلًا: أهلًا بالشباب، والريس عبد الله شيخ الشباب. الله يديم الطيبين والأوادم، جاوبه عبد الله. وفي هذه اللحظة عبر على الرصيف حذونا شابٌ ملتحٍ على الطريقة السلفية الإسلامية، فألقى التحية قائلًا: الله معك عبد الله، كيفك؟ أهلًا حبيبي أبو عائشة، الله يديمك حبيبي. ولما وقع اسم أبو عائشة غريبًا ومفاجئًا في سمعي، التفتُ إلى صاحب الاسم وأمعنت النظر في وجهه، ثم نظرت إلى عبد الله الذي انتبه إلى مفاجأتي، فقال: لقبه أبو عائشة، وهو أصولي إسلامي، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة عابرة.

ورحت أسأل محدثي الطواشي عن جماعات أو مجموعات فتوّات الأحياء الطرابلسية من أمثاله: من يعرف منهم، وما هي نشاطاتهم في المدينة؟ فقال: طرابلس أفقر مدينة في الشرق الأوسط. لماذا هي فقيرة ومهمشة بشكل رهيب؟ وإذا شاهدوا شابًا يربي لحيته، وحكى أي كلمة، دغري (فورًا) بيتوقف، ليش؟! أما إذا أزعر محمي من سياسي، ويرتكب ويخرّب ويقوص (يطلق النار)، ما حدا بيحكي معه، ليش؟! وفي هذه اللحظة مرَّ شاب في الشارع وأطلق تحية: كيفك شيخ عبد الله؟ الله معك حبيبي، الله يقويك ويحميك، جاوبه عبد الله الذي تابع حديثه إليَّ قائلًا: سألني الضابط الأمني عن "المبادرة" -وهذه كلمة درجت في نشاطات منظمات المجتمع المدني، وشاعت بين مجموعات 17 تشرين، وأدخلها عبد الله في قاموسه الكلامي أثناء مرابطته في ساحة النور الطرابلسية، طوال أيام انتفاضة تشرين- هل أنت تنظمها؟ وماذا تريد منها؟ إنها "مبادرة" سلمية، ونطالب فقط بأن نعيش ونأكل ونطعم أولادنا وعائلاتنا بعرق جبيننا، أجابه عبد الله. فقال له الضابط مجددًا: أنت إذًا المسؤول عما يحدث أمنيًا في هذه المسيرة.

وبعد تلك المسيرة، ما الذي حدث؟ سألتُ الطواشي، فأجاب: في كل أسبوع، قبل ثورة تشرين، كنا ننطلق بمسيرتين أو ثلاث ناجحة. وفي نهاية كل منها أودع الشباب، فيسألوني: متى المسيرة الثانية؟ إن شاء الله خير، بعد بكرا إن شاء الله شباب، أجيبهم، فيتفرقون. وأضاف عبد الله: طبعًا كنت أنفذ وعدي. وكان البنزين متوفرًا ورخيصًا في تلك الأيام، فنملأ خزانات الموتورات (الدراجات النارية) بأربعة آلاف ليرة أو خمسة، وننطلق. أما في هذه الأيام فصار البنزين والمازوت مثل الذهب، عملة نادرة، وأندر منها الكهرباء.

كلمات مبعثرة
لكن حدثنا يا عبد الله عن فتوّات الأحياء ومجموعاتهم، من تعرف منهم، ألححت عليه سائلًا إياه. فذكر مجموعات "ثورة المحرومين" التي نشأت وكانت معروفة قبل انتفاضة تشرين. ومن مقدميها ورائديها ذكر عبد الله: أبو ناجي الفوّال، أحمد باكيش، ميشال محفوظ. وكانت مجموعاتهم –بحسبه– تتحرك دائمًا، وغالبًا ما ينفذون وقفات احتجاجية أمام المسجد الكبير، بعد صلوات ظهر نهارات الجمعة. وأحيانًا كانوا يقفون في ساحة التل وسط طرابلس. وكان الناس يتساءلون: شو رح يطلع من أمرهم؟! البلد مسيّس من 30–40 سنة. أما أنا عبد الله الطواشي، فأقول: لقد قدّموا وضحوا، لكن بلا نتيجة، تمامًا كما حصل لاحقًا في ثورة تشرين. وهنا ذكر محدثي اسم ربيع الزين ومجموعته من الشبان والفتيان الطرابلسيين، وكذلك المجموعات المسماة "حراس المدينة"، وسمى "قائدهم" أبو محمود شوك، وقال: الله يعطيه العافية، هو رجل لديه إمكانات، وقدم للمدينة وأعطاها قدر مستطاعه. وشبانه "الحراس" كانوا منذ ما قبل انتفاضة تشرين يسهرون الليالي لحراسة المدينة، فيمنعون شاحناتٍ تأتي ليلًا من خارجها لترمي في شوارعها حمولاتها من النفايات. وذلك عندما راحت البلدات وأحياء المدن اللبنانية تتقاذف نفاياتها. وعن "حراس المدينة" قال عبد الله: كلهم شباب طيبين، وقد عاشرتهم وعاشرت قائدهم أبو محمود شوك في ساحة النور أيام ثورة تشرين.

حياة ميتة بلا لغة
لأكثر من ساعة حاولت عبثًا استدراج عبد الله الطواشي، لأسمع منه رواية ما متماسكة عن حادثة أو واقعة في سياق ووقت محددين. عن أشخاص لهم صفات ووجوه وأهواء ووجود، وقاموا بفعل ما محدد. عن أوضاع ومواقف متنازعة. عن حياته هو، ومن يعرفهم وسماهم من فتوّات طرابلس. كلهم طيبون، وخير وبركة، يردد ويكرر كلمات نمطية مماثلة من قاموسه الكلامي الفقير. وحيّرني تعليل هذا الضرب من الكلام وإعادته إلى مصدر ما: هل يتكتَّم عبد الله على ما عاشه وخبره منذ ولادته سنة 1984، أم أنه لا يملك منه سوى هذه العبارات والكلمات النمطية؟ وماذا يبقى فعلًا من تجارب عيشه واختباراته الصاخبة، إذا انزلقت من ذاكرته ووعيه وامحت، قبل عثورها على لغة وكلمات تقولها قولًا سرديًا مفكرًا فيه، ويتبصر في الوقائع وتحولاتها وانعطافاتها وانقطاعاتها؟

ومثل هذا السرد كنتُ قد استمعتُ إليه ساعات وساعات في مرويات طويلة من فتوّات طرابلسيين كثيرين كانوا أسلافًا لعبد الله ويجهلهم جهلًا تامًا تقريبًا، رغم أنهم عاشوا في الأحياء التي عاش ويعيش فيها، ولا تزال على حالها كما كانت في زمن من يُفترض أنهم أسلافه. أولئك الذين كانوا فتوّات في ستينات القرن العشرين وسبعيناته: في غمرات العروبة الناصرية والبعثية أولًا، والعروبة العسكرية الفلسطينية المتشابكة مع العمل اليساري الماركسي–اللينيني ثانيًا، قبل أن يعاجلها ويقتلعها الإسلامُ الثوري الخميني الذي هبّ على طرابلس عنيفًا في مطلع الثمانينات. وقد نشأ في غمرة تلك التحولات جيلان في مدرسته علي عكاوي ووريثه شقيقه الأصغر خليل عكاوي (أبو عربي) الشهير في باب التبانة وطرابلس ولبنان السبعينات والثمانينات. وبعض اليساريين الماويين في بيروت، المفتونين المتدلهين بشعبوية البطل الثوري العضوي، تبرعوا بتسمية خليل عكاوي "سارتر بلادنا". وكنت قد سجلت سيرًا وشهادات كثيرة لأركان أبو عربي وفتواته الطرابلسيين، فإذا بها سرديات روائية لأحوال طرابلس وتحولاتها العاصفة طوال أكثر من عقدين.

وهذا على خلاف كلمات عبدالله الطواشي النمطية والآنية كلها. كأنما ذاكرته ولغته ابنتا حاضرٍ ثابتٍ ومقيم وشديد المحلية الطرابلسية، لا يتغير ولا يتحول. كأنما كلماته رسائل نصيّة سريعة كتبت على شاشة هاتف محمول، على خلاف ذاكرة أسلافه وكلماتهم المادية والطالعة من رحم العيش ووقائعه.

وتهيأ لي أن كلمات عبد الله الطواشي، بل عالمه كله  طالع من آنية الهاتف المحمول وتطبيقاته: الواتس آب، السيلفي، تويتر، اللايك، الفيديو، الإنستغرام، والشير... إلخ. وهذه كلها تنف لغة آنية تمحو الوقائع والخبرات والتجارب الحية والبطيئة، العامة والشخصية، وتقطّعها إربًا متناثرة متباعدة، كأنها لم تكن أو تمحي قبل عثورها على لغة طالعة من الوقائع والتبصر فيها.

وفوق هذا كله تقيم هذه "اللغة الآنية" تواصلًا سريعًا زائلًا مع العالم الذي كان سيّالًا، ويختبر معايشوه حيواتهم وتجاربها في لغة سردية تحايث الوقائع وتحولاتها. وهذا كله لم يعرفه عبد الله الطواشي ولا اختبره، وتركه لأسلافه الذين قتل معظمهم أو ماتوا، وأظنُ أن حضورهم الآفل أقوى بما لا يقاس من كلماته الفقيرة المكرورة.
(يتبع)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024