إميل لحود والانقلابيون القوميون في المحكمة العسكرية عام 1949

محمد أبي سمرا

السبت 2020/06/20
غداة هجوم محازبين سوريين قوميين على مخفر الغبيري وسنترال الهاتف في برج البراجنة، في محاولتهم الانقلابيّة الأولى على الدولة سنة 1949 (رُويت مشاهدها الهزلية الدامية في "المدن")، قام عناصر من سلك الدرك (لم يكن يسمى آنذاك سلك أو جهاز قوى الأمن الداخلي) في مخافر الغبيري، برج البراجنة، الحدث، حارة حريك، وفرن الشباك، بعمليات دهم واعتقال عشوائية واسعة في هذه القرى الساحلية، شملت محازبين سوريين قوميين وكثيرين سواهم، لم يكونوا على أي صلة بحزب الزعيم الأسطوري أنطون سعادة أو سواه من الأحزاب.

كانت هذه المخافر تابعة لقيادة فصيلة درك بعبدا، بأمرة الضابط أمين علوية (من أرنون - النبطية)، فتولى هذا الضابط التحقيق مع الموقوفين (تجاوز عددهم المئة)، الذين جُمعوا وكُدِّسوا في سجن مخفر سرايا بعبدا. وكان بين المعتقلين سكّير المريجة أحمد منصور، المعروف بسوابقه في مشاجرات لا تخلو من إطلاق نار بمسدسه، وإقدام رجال سلك درك مخفر المريجه على اعتقاله مرات، وإطلاق سراحه. وهذا بحسب راوي عملية هجوم القوميين السوريين، خليل خالد الفغالي، المولود سنة 1934 في المريجة، الذي كان موظفًا ليليًا في سنترال هاتفها، وشهد عملية الهجوم الليلي عليه، وكان في عداد المعتقلين الذين سرعان ما بدأت الأجهزة الأمنية والقضائية التحقيق معهم، قبل أيام قليلة من إعدام الزعيم أنطون سعادة. 

لسعة جان عزيز
أُدخل الراوي الفغالي إلى مكتب المستنطق جان عزيز (النائب الشهابي عن جزين والوزير، لاحقًا، في الستينات) في السرايا. كان يجلس إلى جانب عزيز قائد سرية الدرك في جبل لبنان، نسيب سليم (من قرية صبّاح القريبة من جزين). ولم تكن الأسماء التركية للرتب العسكرية قد زالت بعدُ. فقائد السرية يدعى "البُلُك"، وأحيانًا تسبق هذه التسمية وتُضاف إليها كلمة "الكومندان" الفرنسية المتحدرة عن حقبة الانتداب الفرنسي الأقرب عهدًا.

وذكر الراوي للمستنطق عزيز أسماء مهاجمي سنترال البرج، وقال له إنه يعرفهم وشاهدهم يقومون بفعلتهم في الليلة الفائتة. لكن المستنطق أهمل هذه الوقائع المشهودة، وسأل الشاهد عن المدعو أحمد منصور، فجاوبه بأنه يعرفه. لماذا تعرفه؟!، سُئل الشاهد - الراوي مجددًا، فقال: لأنه من ضيعتي المريجة، وأعرفه كما يعرفه كثيرون من أهلها. وهل كان مع الشبان المهاجمين؟ تابع المستنطق، فجاوبه الشاهد: قطعًا لم يكن معهم. لكن المستنطق أمر بإحضار أحمد منصور، فأحضره أحد رجال الدرك. أخبرنا يا أحمد كيف كسّرت أجهزة السنترال وأخذت بعضها؟ سأله المستنطق جان عزيز. سيدنا، لم أكسّر شيئًا ولا علاقة لي بما جرى، جاوبه أحمد. لكنك دائمًا تتزعرن وبتعمل مشاكل، والتقارير تفيد أنك لا تتوقف عن الشغب، تابع المستنطق قائلًا، فردّ أحمد: سيدنا أنا أسكر، وأشرب كأسًا وأشاغب، لكنني لا أهاجم سنترالات.

في هذه اللحظة وقف المستنطق من خلف مكتبه، فبان جسمه الضخم وطوله الذي يقارب 190 سنتم. وبيده التي في حجم مذراةٍ تناول كرباجًا، ثم اقترب من أحمد منصور وقال له: ما بدّك تحكي وتعترف يا أحمد؟! وقبل أن ينهي المستنطق عبارته هذه، هوى كرباجُه على ظهر أحمد. كان الرجل يرتدي بنطلونًا كحليًا وقميصًا حريريًا أبيض من ماركة (5555)، فصرخ صرخة من أعماق صدره، فيما نفر الدم فجأة من ظهره الذي شقّت لسعة الكرباج جلده من أعلاه إلى أسفله، كأنما شفرة موسى قد شقّته من دون أن تشقّ حرير القميص الذي تبلّل بالدم.

المستنطق والمفتش العام
هذا المشهد حمل الراوي الذي كان في السادسة عشرة، على التراجع إلى الوراء مرتعدًا مبتعدًا نحو باب المكتب. فصرخ به المستنطق: تعا لهون ولاه، تعا لهون. وفي هذه اللحظة اقترب الضابطُ نسيب سليم من الراوي الفغالي، حاملاً إبريقَ فخار قدمه للغالي قائلًا: اشرب يا ابني، اشرب، واغسل وجهك. مبادرة الضابط الشّفوق هذه، أشعرت الراوي بأن وجهه ممتقع باصفرار الرعب الذي أصابه، وكاد أن يوقعه أرضًا مغشيًّا عليه. لكن الضابط سأله في نبرة متعاطفة: ألم ترَ أحمد منصور؟ فقال له: لم أره سيدنا، لم أره.

وفي هذه اللحظة دخل والد الراوي الفغالي فجأة إلى المكتب، فتصافح والمستنطق، ثم خرجا معًا من المكتب وتحادثا هنيهات منفردين. وبعد تحادثهما بقليل استدعي أحدُ رجال الدرك الابنَ الفتى الذي أُخلي سبيله، فاصطحبه والده في الخروج من المخفر، وعادا معاً إلى بيتهما العائلي في المريجة.

والد الراوي، المفتش العام في وزارة التربية، كان قد انشغل طوال النهار باتصالات واسعة بكثيرين من كبار الموظفين الإداريين، ومنهم صديقه المستنطق جان عزيز. وفيما كان الراوي الفغالي يغادر مخفر السرايا مع والده، شاهد امرأة تجر أطفالا ثلاثة أو أربعة، مولولةً وتصرخ صابّة على الدرك والمستنطق والدولة والحكومة أقذع الشتائم، من دون أن يجاوبها أحد أو يحاول إسكاتها. كانت المرأة زوجة عبد الحفيظ علامة، أحد رجال مجموعة الحزب السوري القومي الذين نفّذوا الهجوم على مخفر الغبيري وسنترال البرج، وقُبض عليه. 

في المحكمة العسكرية
بعد أيام من اعتقال الزعيم أنطون سعاده، وإنزال حكم الإعدام سريعًا به في ثكنة الأمير بشير (قرب قصر الأونيسكو بعد تشييده)، استُدعيَ الراوي الفغالي الفتى إلى المحكمة العسكرية، بصفته شاهدًا في محاكمة باقي المتهمين من الحزب السوري القومي. كان رئيس المحكمة العسكرية التي تولّت المحاكمات، المقدم أنور كرم (من رميلة)، ومن أعضائها المدعي العام العسكري يوسف شربل، والملازم أول عزيز الأحدب (الذي صار في رتبة عميد، وقائد منطقة بيروت العسكرية، عندما أقدم على انقلاب عسكري مسرحي - تلفزيوني، في 11 آذار 1976، إبان "حرب السنتين"، أو الحلقة الأولى من حروب لبنان الأهلية المديدة).

كان عبد الحفيظ علامة يقف بين المتهمين الكثيرين الذين أُوقفوا في قفص في ناحية من قاعة المحكمة العسكرية، وعلى رأسه قبعة. فناداه المستنطق العسكري المقدم كرم، قائلا له: يا عبد الحفيظ شو هاي اللي حاططلي ياها على راسك؟ّ!، شيل هالعلامة عن راسك يا علامة، شيلها. وبعدما استجوبه المقدم، نادى المتهمَ خليل الطويل (وهو من المريجة، وشارك في الهجوم على سنترال هاتف برج البراجنة، وعلى خصره قنبلة يدوية)، فأُخرج من القفص، وأُوقف في حضرة رئيس المحكمة العسكرية، فاستهل المستنطق العسكري كلامه الاسنتطاقي قائلًا له: يا طويل، يا قصير، يا معتر أنت يا طويل.

وبعد استجواب المتهمين، جاء دور الشهود الذين كانوا جالسين في ناحية من قاعة المحكمة. كان الراوي الفغالي هو الشاهد الأول الذي نُودي عليه للمثول أمام هيئة المحكمة، فصرخ قائلا: حاضر، نعم حاضر سيدنا. ولأنه كان جالسًا بين الصحافيين والمتفرجين، لا في المكان المخصص للشهود، راح القضاة العسكريون يتلفّتون في جهات القاعة مستطلعين مستغربين. تأخر انسلال الشاهد من مكانه، فما كان من أحد رجال الشرطة العسكرية إلا أن ركض في اتجاهه وأمسكه من ثيابه وجرّه، ثم وضع رجله في ظهره ودفعه دفعةً قوية قذفته إلى أمام هيئة المحكمة، حيث وقع أرضاً، فصرخ به رئيس المحكمة قائلا: شو باك وليه، شو باك؟! فقال، فيما هو ينهض: لبطني سيدنا، لبطني، فاشتعل رئيس المحكمة غضبًا، فيما هو يوجه إليه أسئلته عما حدث ورأى ليلة الهجوم على السنترال الذي يعمل فيه.

أحقاد المحامي إميل لحود
بعد الانتهاء من استجواب الشهود، أعطى رئيس المحكمة الكلام للدفاع الذي تولاه عن متهمي الحزب السوري القومي المحامي إميل لحود (عم صاحب الإسم نفسه، قائد الجيش ورئيس الجمهورية، تباعًا، في عهد الاحتلال السوري للبنان).

كان غضبُ المحامي لحود وحقدُهُ على الحكومة اللبنانية التي كان وزيراً للمال فيها قبل إقالته منها، هما ما دفعاه إلى تولي الدفاع عن المتهمين القوميين. وهو كان أُقيل بسبب شبهات وشائعات حامت حوله في قضية فساد مالي تداولت ألسنة الناس والصحافيين في البلاد أخباره طولًا وعرضًا آنذاك. وقيل إن وزير المال اللحودي، استولى على أموال حكوميّة تُسمى "قرش الفقير" البالغة 9 ملايين ليرة لبنانية، جُمعت كضريبة (شبيهة بضريبة الـ TVA، أو القيمة المضافة، التي فُرضت بعد 50 سنة، في عهد العماد إميل لحود الرئاسي، ابن أخ إميل لحود المحامي ووزير المالية).

وكانت الحكومة تجمع تلك الضريبة لمساعدة الفقراء والمحتاجين، فتشتري بها قمحًا توزعه عليهم. ولكثرة ما حامت الشبهات حول وزير المال، وتلافيًا لأزمة حكومية، اتفق رئيس الحكومة رياض الصلح، مع رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، على إقالة الوزير لحود من منصبه.

خطابة الثأر
وما أن وقف المحامي والوزير المُقال في المحكمة العسكرية، مدافعًا عن متهمي الحزب السوري القومي، ثأرًا منه لإقالته من الحكومة، حتى وجد في حالة الشاهد - الراوي، الموظف في السنترال قبل بلوغه سن الثامنة عشرة، مستمسكًا قانونيًا جعله المسألة الأولى والرئيسية في دفاعه عن المتهمين، واتهام الحكومة بالفساد الإداري.

لذا حصر مطالعته كلها في الكلام على هذه المخالفة الإدارية، فاخذ يخطب في المحكمة قائلا: أيها السادة، أنظروا ماذا تفعل هذه الحكومة التي لا تحترم نفسها، فتوظف فتىً تحت السن القانونية في إدارة رسمية، وتأتي به إلى المحكمة شاهدًا! هل هذه حكومة؟! واسترسل المحامي أكثر من نصف ساعة على هذا المنوال الخطابي، الذي دفع رئيس المحكمة أخيرًا إلى مقاطعته، قائلا: يا أستاذ إميل، مضت نصف ساعة وأنت تخطب حول مسألة تتعلق بالحكومة وبهذا الشاب الشاهد "الفريخ". هل هذه هي القضية كلها؟! شو خص الحكومة بما أقدم عليه المتهمون؟!

هنا جاوب المحامي: أنا أُطلع الصحافة الكريمة على حال الفوضى والفساد التي تغرق فيها حكومة توظف فتىً في إحدى إداراتها قبل بلوغه السن القانونية! هذا لا يجوز، هذا فساد كبير.

بين الإعدام والمؤبد
لاحقًا أصدر القاضي شارل جلخ الأحكام في القضية، فجاءت على النحو الآتي: فَصْلُ الشاهد خليل خالد الفغالي من وظيفته في سنترال هاتف برج البراجنة. أما متهمو الحزب السوري القومي فحُكم على 12 منهم بالإعدام: منهم عبد الحفيظ علامة، أديب الجدع، خليل الطويل، فؤاد قايدبيه، نبيل صعب (فرّ إلى فنزويلا)، وجورج عبد المسيح (فر أيضًا ولم يُعتقل). ونُفذ الحكم رميًا بالرصاص بستة من المتهمين المعتقلين. ولم يتذكر الراوي منهم سوى علامة والطويل والجدع. وقيل إن الزعماء السياسيين أكثروا من تدخلاتهم لتخليص هذا المتهم أو ذاك من محاسيبهم، فاستُبدلَ حكم الإعدام بستة من المتهمين بالسجن المؤبد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024