الجمعة 2015/02/27

آخر تحديث: 17:42 (بيروت)

العنف المعنوي.. قضاة يحصّنون المجتمع بوجه المشرع

الجمعة 2015/02/27
العنف المعنوي.. قضاة يحصّنون المجتمع بوجه المشرع
العنف المعنوي أخطر من الجسدي، ومن أشكاله التحكم بالمرأة والحد من حريتها (Getty)
increase حجم الخط decrease
إعتراف المشرع اللبناني بضرورة تأمين الحماية القانونية للمرأة لم يكن بالأمر اليسير، هذا لو سلمنا بحصولها أصلاً. نضال نسوي طويل، أدى في نهاية المطاف الى اصدار قانون مبتور، يحمي المرأة جزئياً من العنف. وذلك بعد أن حذف المشرّع "العنف المعنوي"، الذي كان وارداً في مشروع القانون نتيجة ضغوط دينية. هكذا، لم يعترف المشرّع بالعنف، إلا في جزء منه مرتبطٍ بوجود ندبات واضحة على جسد الضحية، أو أذى يفوق ذلك ربما.

بالرغم من هذا التقصير المفتعل، وقف القضاء وقفة حقوقية تتخطى محدودية النص. اذ لم يخضع القضاء المنحاز الى حقوق الإنسان للقيود التي كُبل بها، فأخذ يصدر قرارات حماية لنساء من عنف أزواجهن المعنوي. كيف عرّف القضاء العنف المعنوي؟ وما مدى تأثير هذا الشكل من العنف على حياة المرأة؟

في تاريخ 4 شباط 2015 أصدر قاضي الأمور المستعجلة في قضاء جبيل جوزف عجاقة قرار حماية لمصلحة زوجة وإبنتها. يعطي عجاقة الأولوية في قراره لـ"التهديد بنزع الطفلة من والدتها" كشكل من أشكال العنف الذي تتعرض له المستدعية. ويكمل القاضي معدداً الأسباب التي دفعته لإعتبار المستدعية معنفة أُسرياً، بحيث يشكل "الضرب أمام شهود" آخر هذه الأسباب. كما يذكر "المنع من دخول المنزل الزوجي وتهديد المستدعية" ضمن الأسباب الموجبة للحماية. وكأن القاضي عجاقة يريد أن يلفت الإنتباه في قراره الى مدى خطورة العنف  المعنوي، وتقدمه في الخطورة على العنف الجسدي حتى. أو على أقل تقدير، يمكن تلمس مساواة بين هذين الشكلين من العنف في هذا القرار.

لم يتطرق عجاقة في قراره الى تعريفات العنف المعنوي، بل ذهب مباشرةً الى التعامل معه كعنف قائم. يوحي هذا التوجه للمطلع على القرار أن التعامل مع العنف المعنوي يجب أن يقع في إطار البديهيات. بالمقابل تبقى الحاجة ملحة لقيام القضاء بتصنيف العنف المعنوي وإلقاء الضوء عليه، لتعزيز أهمية الإعتراف به.

في حالة سابقة، كان قاضي الأمور المستعجلة في منطقة جديدة المتن أنطوان طعمة أكثر اقتناعاً بضرورة القاء الضوء، عبر الإجتهاد القضائي، على العنف المعنوي. ففي تاريخ 20-8-2014 أصدر طعمة قرار حماية لزوجة وإبنتيها القاصرتين في قضية مشابهة لناحية إستخدام الزوج للأبناء كأداة ضغط على الزوجة. وقتها، إعتبر القرار أن العنف المعنوي وجه من أوجه العنف ضد المرأة. كما إعتبر أن التهديد بالأولاد الناتجين من الرابطة الزوجية يشكل أداة تعنيف بحق الزوجة.

إذن، منذ إصدار قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، أصدر قضاء العجلة قرارين مبنيين على العنف المعنوي، غير المُعرّف أو المُكرس بالنص القانوني اللبناني حتى الآن. والواقع أن القرارين ليسا يتيمين، ذلك أن القاضي المنفرد في جديدة المتن رالف كركبي كان سباقاً على اقرار القانون نفسه، في إصداره قرار يمنع المستدعى ضده من "نشر صور منافية للحشمة لزوجته وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها 50 مليون ليرة عن كل صورة تنشر أو تسرب لأي جهة كانت وبأي وسيلة كانت".

بصريح العبارة أشار كركبي في قراره الى أن "العنف ضد المرأة لا يقتصر فقط على العنف الجسدي الذي يمكن أن تتعرض له المرأة من قبل شريكها أو أي رجل آخر، بل يشمل أيضاً العنف المعنوي الصادر عن الرجل". وذهب القرار أبعد من ذلك، فقد عرّف العنف المعنوي الموجه ضد المرأة على أنه "تصرف معين يطال من خلاله كرامتها ومكانتها الاجتماعية والعائلية والمهنية". وإعتبر كركبي في قراره المميز والمرجعي ان "العنف المعنوي قد يلحق بالمرأة أضراراً أخطر من العنف الجسدي، لا سيما عندما يشوه صورتها ويهدد مستقبلها".

ويدّل توجه القضاء الى التأكيد على المساواة بين العنفين المعنوي والجسدي، عن تقدير هذه الجهة مدى خطورة العنف المعنوي. لا سيما أن العنف المعنوي ينعكس على حياة المُعنَّف ككل، وعلى تطوره ونظرته الى ذاته، ومستقبله وعلاقاته الاجتماعية. في إحدى الدراسات التي نشرتها مجلة الجيش منذ عام 2006 بعنوان "أخطر أنواع العنف وأقلها إثارة للإهتمام. عملية تدمير للآخر ..." يتبين أن "الخلاف الزوجي المتصاعد الى نقطة العنف الجسدي لا يحصل إلا إذا كانت لأحد الشريكين أو كليهما، شخصية منحرفة تتلذ بإلحاق الأذى المعنوي بالشريك لأسباب نفسية كامنة".

تلقي الدراسة، المستندة الى أخرى لأستاذة أميركية في العلاقات العائلية، إلى تأثير العنف المعنوي على العائلة ككل. ذلك أن "المعنفات المرغمات على الطاعة العمياء لتجنب العنف الجسدي والحائرات بين الرضوخ بحكم العادة والحرص على صيانة العلاقة، والعالقات بين ذلك وبين الرغبة بالتحدي والإنتقام للكرامة، قد تتحصن بدون وعي منها بردات فعل سلبية... قد تترجم بتشبه الضحية بالمعتدي لممارسة ضغوط على أفراد عائلتها وخاصةً الأطفال بقصد التشفي...".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها