الثلاثاء 2015/04/14

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

وسط بيروت.. ممر لجزيرتين

الثلاثاء 2015/04/14
وسط بيروت.. ممر لجزيرتين
كأن وسط البلد، مركز التراث البيروتي، تحول الى ديكور مصطنع (Getty)
increase حجم الخط decrease
لم تعد بيروت كما هي، مستلقية على حافة المتوسط، وصرخة العرب في زمن القمع. لعل ذلك ما يتفق عليه معظم الكتاب والروائيين اللبنانيين. فبيروت الصغيرة بحجمها، والتي وقفت حاملة كل أحلامها قبل 40 عاماً، تنتظر اليوم الصدمة، ولا تعرف أين تهرب. مع ذلك، يسيطر الشعور بالعار والذنب على معظم من عايش الحرب، ويسلط جبروته على أغلب التاريخ المكتوب. ويمكن ان يحكى الكثير عن المدينة التي "قدّر لها أن تعيش وتعود الى الحياة مهما كان"، كما وصفها الجغرافي إليزيه روكلو. وفي كل قيامة لها تعود بطلّة أخرى، ولكنها هذه المرة مُحيت. 


لكن الحديث هنا ليس عن أحيائها الشعبية، أو أزقتها، التي امتنعت عن الارتباط بالعمران السينمائي الطاغي على وسط المدينة، بل عن هذا الوسط، نفسه، الذي كان محور تألقها قُبيل الحرب. كل من عايش "المدينتين"، بيروت الستينات، الحيوية والمختلطة والمفتوحة للجميع، بحسب الباحث الاجتماعي سمير خلف، وبيروت الحاضر الرمادية بسطحيتها، يصدمه هذا التحول. المدينة المعاصرة، في زمن الشرق الأوسط التقليدي، تغيّرت معالمها ووظيفتها، وأصبح مصيرها مبهماً.


اختفاء الاقتصاد الشعبي
في التصور المُدني، عالمياً، يحوز وسط المدينة الحيز الأكبر من النشاط الاقتصادي، مستفيداً من قربه الجغرافي من جميع المناطق. وبيروت، ذات المساحة الصغيرة، التي تكاد تكون أشبه بضاحية عاصمة أجنبية، ليست بعيدة عن هذا التصور. يتحدث الكاتب اللبناني سمير قصير، في كتابه "تاريخ بيروت"، عن النقلة الاستهلاكية التي عاشها سكان بيروت في ستينات القرن الماضي، حيث أصبحت جزءاً من السوق والثقافة العالميين. وذلك يرجع إلى عوامل عديدة منها اعتماد لبنان سياسة اقتصادية حرة، وتطبيقه السرية المصرفية والأهم من ذلك استعانة الدول الغربية ببيروت كمدينة منفتحة وآمنة في منطقة إقليمية مشتعلة.

عليه، فقدت السلطة المحلية قدرتها على السيطرة على الاقتصاد، في ظل حضور رؤوس الأموال الكبيرة وتوافد رجال الأعمال العرب، ناهيك عن تشبث البرجوازية اللبنانية بالسوق. مع ذلك حافظ التجار اللبنانيون الصغار على مساحة لهم، كما في الأسواق الشعبية. وكان وسط المدينة، يضج بالحياة، بمحاله الشعبية، ومكانه الوسطي. كل ذلك انتهى بعد إعادة الإعمار، فإختفت رؤوس المال الصغيرة، وأبعد اللبنانيون عن الوسط لتحتله فروع شركات أجنبية، ومكاتب أخذت من رونق المدينة كل ما تملك.

يتذكر بحسرة أبو أيمن "أيام العز"، ومحل الأدوات المنزلية الذي كان يملكه في وسط بيروت. فالرجل الذي يناهز اليوم السبعين، أسقطته الحرب وأخذت منه إرثه عن أبيه. "تركنا كل شيء عند اندلاع الحرب، ورغم محاولتنا الصمود فشلنا، ويا ليتنا لم نستسلم. عندما عدنا كان كل شيء خراباً". يشرح أبو أيمن كيف كان السياح يأتون بكثرة، وكيف أن مردود العمل كان كافياً لاطعام عائلة مؤلفة من ستة أفراد. أما الآن فالمحل اختفى، "أخذنا تعويضاً، ولكن من أجل ماذا؟ اضطررنا ان نبيع الخراب، ولم يكن باستطاعتنا ان نعيد إعمار أي شيء".


بيروت "المدن الصغيرة"
لا تقتصر التغيّرات على الاقتصاد فحسب، وليس هذا ما أسقط المدينة في هاوية التبعية بعد الحرب. في مكان آخر، كانت بيروت توصف بالملتقى. لكن، بعد الحرب، سُرقت منها كل الصفات. وانقسامها إلى شرقية وغربية، لم ينته عند توقيع إتفاق الطائف، وهذا أكيد. خط التماس الذي رسمته الحرب، وحدت من خلاله حياة اللبنانيين وتنقلهم، تشعب ليصبح خطوطاً.

وبالاضافة الى ما عاشه وسط البلد من تمويه سينمائي في عمرانه، فإن الاصطفافات الطائفية والسياسية حولت بيروت الى "مدن صغير" على حد وصف الكاتب يوسف بزي. وهو يرى ان أحياء بيروت أصبحت مدناً بحد ذاتها، "ذات أسوار افتراضية"، فانتشرت المحال والمتاجر، داخل كل حي، في محاولة لتأمين الاكتفاء الذاتي وتجنب الارتباط الاقتصادي الاجتماعي بالأحياء الأخرى. مدن، وان تقاربت جغرافياً، إلا أنّ اللافتات السياسية تخط حدودها الوهمية، وبذلك انتقلت المدينة من مركزية الوسط التجاري والاجتماعي الى ما يشبه الاتحاد البلدي القروي. فالمناطق التي لا تبعد عن بعضها إلّا مسافة صغيرة، صارت ذات "سينوغرافيا مختلفة".

في السياق نفسه، حافظت المدينة على خط التماس التاريخي، حيث أصبح وسط البلد ممراً بين جزيرتين، كما يصفه بزي بقوله "عندما أمر من الحمرا إلى الأشرفيّة عبر جسر الرينغ – فؤاد شهاب، أدرك أن الناس هكذا، يروحون ويأتون من الشرق إلى الغرب وبالعكس دون المرور بتلك الجزيرة".


ثقافة اللااختلاط
بالاضافة الى السياسة، فإن ما ساهم في تحول وسط البلد الى "نكرة اجتماعية"، يتجنب الناس المرور فيه هو افتقاده لبعده الثقافي والترفيهي. تشهد سنوات ما قبل الحرب على تعدد صالات السينما في بيروت عموماً، ووسط البلد بشكل خاص. مثل "كابيتول"، "شهرزاد"، "ريفولي" ومسرح "شوشو". لكن هذه المطارح، الثقافية، لم تجد لها مكاناً في حلة الوسط الجديدة، وأخذت معها ما كان يعرف بالدمج الديموغرافي للوسط. ولعل المفارقة المُقلقة، بقدر تعبيرها عن حالة بيروت، ترتبط بتحول ازدحام السير بعد انتهاء عروض الأفلام في الصالات الى ازدحام بين عالمي المدينة، الشرقي والغربي.

كل ما ذكر يبقى على المستوى المادي من التغيير، ويمكن ملامسته عند المرور في بيروت. لكن الحرب أدرجت أيضاً واقعاً جديداً، هو الفقدان الاجباري للذاكرة. جيل اليوم لا يعرف ما كانت عليه بيروت قبل أربعين عاماً، ولا يجد ما يعيده الى جدلية بيروت اليسارية- الرأسمالية، كما أبدع في صياغتها مارون بغدادي في فيلمه "بيروت يا بيروت". كأن وسط البلد، مركز التراث البيروتي، تحول الى ديكور مصطنع، ينحت في ذاكرة الناس بيروتاً أخرى، ويحبس واقعها وتاريخها في النسيان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها