السبت 2015/06/06

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

"الزيرة" قبلة الباحثين عن متعة البحر

السبت 2015/06/06
increase حجم الخط decrease

يستعد مازن ورفيقاه صباح كل يوم للانتقال من حي الحدادين، في سيارة أجرة الى كورنيش المينا. يأخذون معهم "سندويتشات" من اللبنة وأكياس "تشيبس" وبعض عبوات البيرة يشترونها خلسة من بائع في ساحة الكورة. انه موسم تسليتهم الوحيد، قضاء ساعات النهار تحت اشعة الشمس الحارقة، والاستمتاع بمياه البحر، هم الذين يسكنون في بيوت ضيقة يلتهمها الحر.


يركب الفتية، الذين أنهوا مدارسهم منذ ايام، في "فلوكة" صغيرة. يشترطون دفع 3000 ليرة للشخص الواحد، ويطلبون من سائقها ان يضع لهم أغنية "دلالي" لروعة الأشقر. يخلع الشبان قمصانهم، فتبدو أجسامهم السمراء لامعة، وهم يتمايلون بشغف على لحن الأغنية الشعبية. يرسلون تحايا عابثة الى الصيادين الموزعين على جزر الرمكين والسنني والبلان والرميلة والعشاق والثالثة، والمقطوعة، وجزيرة البقر، وهي جزر تتوزع عليها عائلات تجد متعة السباحة في أماكن صخرية.

ولا ينتهي عبث الفتية عند هذا الحد، فيرسلون قبلات لفتيات جالسات بـ"البيكيني" على سطح يخت خاص، ويضحكون بصوت عال، وهم يتبردون برذاذ البحر المالح، فيخففون من جلبتهم حين يعلن السائق وصولهم الى "زيرة الأرانب"، كما ينادي "أولاد البلد" جزيرة النخل.

"لا شيء يفوق رحلة الزيرة"، يقول مازن، الذي يرتاد "ثانوية سابا زريق الرسمية"، ويساعد والده في عمله بالحدادة في فصل الصيف. "يتركني ابي في الأسابيع الأولى من عطلتي أصيع كما يحلو لي"، يضيف وهو ينزل الاكياس بتأن، "انتبهوا ما ينكسروا الغراض"، و"الغراض" لفظ شعبي يطلقه ابناء الاحياء على عبوات الكحول، "بالحارة ما فينا نشرب وما نقول لحدا. هنا نستطيع ان نستلذ بالسباحة والبيرة معاً".

في "الزيرة" تتوزع مجموعات مختلطة من الفتيات والنسوة والرجال، وهم يرتدون ملابس السباحة. إذ تسمح المسافة التي تفصل الجزيرة عن الكورنيش، والتي يتطلب اجتيازها أكثر من نصف ساعة، للرواد في التحرر من ألبسة السباحة المحتشمة. تقول رانيا انها تفضل القدوم الى هنا، "ما في زعران"، وتضيف وهي تفرد شعرها الكستنائي، "يستعصب البعض القدوم الى جزيرة الأرانب كونها بعيدة وبعض العائلات تتجنبنها كوننا نرتدي البيكيني".

بعض العائلات المحافظة ترتاد المسبح الشعبي الملاصق للكورنيش. يتسنى لأولاد العائلة التمتع بركوب الدراجات الهوائية، وشراء البوظة، والتمدد على الرمل. لكن المسبح الذي يعد خطيراً، بعد ارتفاع عدد الغرقى فيه كل عام، لعدم تجهيزه ولفقدانه معايير السلامة العامة، يبدو قبلة كثيرين ممن لا يملكون المال لارتياد المنتجعات المتوسطة في منطقة شكا، أو ركوب الفلوكات في رحلة الجزر.

تقول السيدة ناهد عثمان: "نرتاد المسبح الشعبي كونه لا يكلفنا شيئاً. لدي 7 أولاد. أين يمكنني أن آخذهم؟ كل المنتجعات مكلفة و"الدخولية" اليها لا تقل عن عشرة آلاف ليرة". تصمت قليلاً، ثم تضيف: "حياة الفقراء مهينة. نضطر لتذوق المر. حتى متعتنا فيها كثير من المرارة. أخاف على أولادي وأحاول الانتباه اليهم قدر المستطاع. لا يمكنني رفض طلبهم الخروج من البيت. شقتنا صغيرة في حي شعبي، وزوجي مياوم، ومصروفنا على قد الحال".

قبل طوفان نهر ابو علي، عرف فقراء طرابلس السباحة في المياة الحلوة الباردة، الآتية من رشعين ومن اعالي جبال الارز. كان زمناً جميلاً، حيث كان سكان المدينة القديمة لا يضطرون لترك أحيائهم والالتحاق بأولاد مدينة "الأسكلة" (المينا) للسباحة. كان النهر نظيفاً. يتذكر الحاج محمد الرملاوي (76 عاماً) طفولته في حي البحصة. حين كان يترك بيتهم ويتجه مع اترابه الى النهر للسباحة. وكانت المياه الخارجة من الطواحين، الموجودة على ضفتي النهر، تشكل مجرى مياه سريع الإندفاع ويسمى "الجفل". تحول "الجفل" إلى امتحان دائم للفتوة، وكانت تجرى مباريات دائمة لشباب المحلة أو الحارة في الصمود أمام تدفق مياه النهر بالوقوف في ثبات فيها.

يقول الحاج إنّ "السباحة في النهر كانت أجمل أيام طفولتنا. كنا قليلاً ما نذهب إلى البحر. نحب الصيد من مياه أبو علي والاستمتاع في الجلوس على ضفافه ومقاهيه التي دمرها طوفانه". يتذكر الحاج مبنى الطاحونة، وهو مكان للغطس، ومعرض للسابحين الذين كان يحلو لهم دهن أجسادهم بالزيت الحلو والتشمّس وعرض "كمالهم الجسماني"، "كانوا يتبارون في اظهار فتوتهم. وكنا ننبهر بقوتهم. وكانوا معظمهم شبان يرتادون نادي زهرة الشباب الذي لا يزال موجوداً مقابل مسجد البرطاسي".

وبالقرب من طاحونة الدرويشية، وفي مجرى النهر، كانت توجد حفرة واسعة عميقة (أكثر من 5 أمتار) تشكل "كعبة" السابحين ويقال لمن نجح في اختبار مهارته بالسباحة الخطرة فيها بـ"الحاج"، اي أنه أتم "مراسم الحج" الرياضي. واستعمال تعبير "حاج" عائد لكون الحفرة النهرية بالقرب من المولوية.

وشكل هؤلاء السابحون نجوم نادي "زهرة الشباب" قاعدة المنتسبين إليه. وفي الوقت نفسه، كان معظمهم يلتحق بسلك الشرطة البلدية أو بجهاز سرية الأطفاء، اذ "كان يقال دائماً في الشرطة والاطفائية، هاتوا لنا شباب النهر ليدخلوا السلك"، وفق ما ذكر المؤرخ الراحل طلال منجد في كتابه "مجتمع النهر".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها