الأربعاء 2014/11/19

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

.. في عكار قطع الأشجار لتدفئة الأطفال "حلال"

الأربعاء 2014/11/19
increase حجم الخط decrease

"يصف بعض الزعماء محافظة عكار بالمنكوبة. نعم هي منكوبة، لدرجة أن الكثير من أهلها لا يملكون ثمن رزمة حطب للتدفئة". بهذه العبارة يختصر أبو أحمد حال العكاريين. يأسف أبو أحمد، وهو المسؤول في لجنة حماية الأشجار في جبال القموعة، لحجم الخسارة الحرجية التي تتكبدها عكار سنوياً. يقول: "أن تقطع شجرة مهمة لا تستغرق خمس ثوان، أما أن تزرع واحدة فمهمة قد تدوم العمر كله. وقد باتت عكار تخسر سنوياً ما يقارب الـ5% من ثروتها الحجرية، بينما لا تتجاوز عمليات إعادة التشجير فيها الـ1% من المساحات المقطوعة". بنظر أبو أحمد "لن يحزن رب العائلة على شجرة إن كان أطفاله يموتون من البرد. هناك أولويات لدى الناس ونحن لا نستطيع أن نلومهم، ولكننا نشكو الجهات الرسمية التي لا تعمل على ضبط أسعار بيع المازوت والغاز".


ويروي الرجل، وهو يتجول في ربوع القموعة أنّ "استخدام الحطب للتدفئة أمر مرتبط بثقافة الجيل القديم من العكاريين. بعض النساء لا يزلن يستخدمنه للطهي. والعديد من البيوت تؤمن التدفئة عبر صوبيات الحطب العتيقة. لكن الفارق، أن العكاريين كانوا قديماً يؤمنون الحطب من السهل والمناطق الساحلية، تحديداً من أشجار الليمون والزيتون. أما اليوم فإرتفاع سعر تلك الأنواع نتيجة لتزايد الطلب عليها، دفع بالكثير من العائلات إلى قطع الأشجار المعمرة في الغابات، ولاسيما غابة العذر التي تضم الكثير من اللزاب والسرو والسنديان والأرز والصنوبر".

يمر أبو أحمد مستعيناً بعكازه الخشبي الطويل على أنواع مختلفة من الأعشاب نبتت حديثاً. يميز بين السام والنافع منها. يستفيض في الشرح واثقاً من معلومات إكتسبها بعدما أمضى أربعين عاماً من حياته في العمل الزراعي. يشير إلى جذع مقطوع يعلق الصمغ حول أطرافه، ثم يقول "نظراً لضخامة أعداد الأشجار التي قطعت في عكار، عمد عدد من البلديات إلى تسيير دوريات حراسة في أهم الغابات. فرزت بلدية فنيدق 5 عناصر من الشرطة للمراقبة ليلاً، و5 آخرين للمراقبة الصباحية، وهو أمر يحدث للمرة الأولى في المنطقة". من جهته لمّح نائب رئيس بلدية فنيدق حسن صلاح الدين إلى أن "تشديد الحراسة على الغابات جاء بسبب تمادي بعض الناس ولاسيما تجار الحطب في التعدي على المساحات الخضراء، التي تعتبر ملكاً لجميع اللبنانيين. وما ساعدهم في ذلك هو تجاهل عدد كبير من المراقبين والمفتشين الموكلين من وزارة الزراعة لمتابعة هذه الأمور". وأضاف صلاح الدين: "ضبطنا محاولات عديدة لقطع أشجار في غاباتنا، فإتصلنا بأحد المراقبين لإبلاغه بضرورة التحرك، فأجابنا أنه مشغول بأمور أخرى". والحال، أنّ المجازر البيئية الحاصلة في عكار، تعود بالدرجة الأولى إلى عدم التنسيق والتعاون بين الجهات المولجة حماية الثروة الحرجية. وقد تعدت المأساة غابات القموعة لتشمل غابات حلواص والنصوب في جبل أكروم، مروراً بعندقت والقبيات وعكار العتيقة وبزبينا، وصولاً إلى غابات القلة ومشمش وحرار وقبعيت حتى وادي جهنم عند المنطقة الفاصلة بين محافظة عكار وقضاء المنية – الضنية.

آلاف أطنان الحطب تقطع يومياً. تحمّل على ظهور الدواب التي تسلك الطرق الحرجية الوعرة، المخصصة بمعظمها للرحلات البيئية. ثم تُحمّل من جديد في شاحنات "بيك آب" كبيرة أو صغيرة، تتجه إلى مراكز البيع حيث يحضر الزبائن "الدفيعة"، وتبدأ حفلة "المزايدة" على أسعار الحطب. "كل حطبة حسب أمها"، يفيد أبو أحمد. ويوضح: "يختار الناس الحطب حسب نوع الشجرة التي قطع منها، فدائماً تكون أسعار حطب السنديان والسرو والشوح أكثر إرتفاعاً من أسعار الأنواع الأخرى، إذ تصل نقلة البيك آب منها إلى حدود المليون ليرة لبنانية. أما أسعار حطب الليمون فقد إرتفعت هذا العام أيضاً ووصلت الى حدود الـ800 ألف ليرة للنقلة واحدة، وهي تكفي لتدفئة عائلة من أربعة أشخاص قرابة الأسبوعين فقط".


غلاء أسعار الحطب المخصص للتدفئة دفع برئيس مجلس إدارة البيئة في عكار أنطوان ضاهر إلى تبني موقف مغاير. وهو إعتبر في حديث مع "المدن" أن "حماية البيئة مسألة تتطلب وعياً مجتمعياً كاملاً، ورعاية رسمية وفقاً للقوانين المرعية الإجراء، فمن يعتدي على الغابات ويقطعها يجب أن يُعاقب على أساس أنه ارتكب جريمة، بدل أن يعفى عنه بعد توقيف لمدة يومين أو ثلاثة". ويضيف: "أما الحديث عن حاجة الناس للحطب في ظل إرتفاع أسعار المحروقات وإنقطاع الكهرباء فهو غير مقنع، فصهريج المازوت لا تتجاوز كلفته الـ600 ألف ليرة، بينما يباع الحطب بأغلى من ذلك بكثير". ورأى ضاهر أن "تجار الحطب ومن يغطيهم هم وحدهم المستفيدون من هذا الوضع، بينما المجتمعات المحيطة بمواقع الغابات، والتي حمتها على مر السنين، تعتبر الأكثر تضرراً".

يحزم الناس أمتعتهم مع إقتراب شهر تشرين، مغادرين إلى مناطق الساحل اللبناني، هرباً من قساوة الشتاء في عكار. تصف الحاجة خديجة شتاء عكار بالوحش. "يخيفنا الشتاء. على الرغم من أنه قد مرّ على عكار طقس بارد أكثر من هذا بكثير في سنوات سابقة. لكن الأحوال كانت أفضل. كنا نحصل على مازوت أكثر، بفضل بعض عمليات التهريب". الصوبيات جُهزت في الكثير من البيوت. بدأ دخانها الأسود يشق طريقه الى السماء. كل تحضيرات الجرد العكاري لإستقبال "الفصل الأبيض" بلغت أوجها: المؤونة الغذائية تحضر على عجل، وسبل التدفئة متوفرة طالما أن الكثير من السكان عقدوا العزم على قطع الأشجار للتدفئة بحطبها. وهذا ما ينذر حتماً بأن العكاريين سيدفعون من صحتهم وبيئتهم، في المستقبل، ثمن "الشتوية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها