الثلاثاء 2015/04/21

آخر تحديث: 15:41 (بيروت)

"العيش في أطياف الماضي".. نساء عالقات في ذاكرة الحرب

الثلاثاء 2015/04/21
"العيش في أطياف الماضي".. نساء عالقات في ذاكرة الحرب
زوجات المفقودين يتشاركن معاناة الوحدة والذكورية والإبتزاز (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
جلست ربيعة الرياشي على طرف سرير ابنها الذي غطى رأسه بالغطاء وهو يبكي، لتحاول أن تحثه على الهدوء. "مامي روق، انت كبير وعم فهمك شو في"، قالت لإبنها الذي يبلغ الخامسة من عمره. يومها إضطرت ربيعة أن تشرح لإبنها معنى كلمة مخطوف، لتفسر له حالة والده. قالت: "بكرا بيطلعوا وبدن يجو، وبدنا نحنا نطول بالنا".. وخلال لحظات، رفع الغطاء عن وجهه، أمسك بيد أمه وقال لها: "نحن بدنا نكون قوايا من هلأ ورايح".


كانا بالفعل قويين، بالرغم من كون الأب لم يعد طيلة سنين الإنتظار. تتذكر ربيعة في مداخلتها خلال إطلاق تقرير "العيش في أطياف الماضي"، أمس الإثنين، في "الجامعة اللبنانية الأميركية"، يوم حفل تخرج إبنها بغصة. "يومها إستلمنا بطاقة دعوة لشخصين، أنا ووالده". تكمل ربيعة: "وجدته جالساً في غرفة الجلوس يبكي، تمنى لو أن أعجوبة تأتي بوالده في هذا اليوم".

التقرير معد من قبل "مركز العدالة الإنتقالية في لبنان"، بالتعاون مع "الجامعة اللبنانية الأميركية"، "معهد الدراسات النسائية في العالم العربي"، و"هيئة الأمم المتحدة للمرأة". وهو يلقي الضوء على "أثر الإخفاء على زوجات المفقودين في لبنان"، من خلال مقابلات مع 23 زوجة من زوجات المفقودين من فئات مختلفة. يظهر التقرير أنهن لا زلن يبحثن عن مصير أزواجهن. تعتبر كارمن حسون أبو جودة، مديرة مكتب لبنان في المركز الدولي للعدالة الإنتقالية، أن "تجاهل وإهمال عائلات الأشخاص المخفيين يستمران، ذلك أنهما تذكير بماض يبقى من دون حلول". في ظل هذا الواقع تعتبر أبو جودة أن الأهالي "كضحايا مباشرين لهذه الجرائم، لهم الحق في معرفة الحقيقة وجبر الضرر، وعلى الدولة إحترام ذلك".


يفصّل التقرير الفرق بين مفهومي "المخفي" و"المفقود"، ليوضح في ما بعد أن الحرب اللبنانية شهدت حالات إخفاء وفقدان على حدٍ سواء. والمخفي هو "الشخص الذي يكون مكان وجوده غير معروف لأقاربه و/أو الذي اعتبر مفقوداً استناداً إلى معلومات موثوق بها". أما المفقودون، ووفقاً للإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، فهم ضحايا الإخفاء القسري واللاإرادي، أي ضحايا الإعتقال أو الإحتجاز أو الإختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة وبموافقتها، ويعقبه رفض الإعتراف بحرمان الشخص من حريته أو بإخفاء مصير الشخص المخفي أو مكان وجوده، ممّا يحرمه من حماية القانون.


"أنا المنظر ما بروح من راسي، منظر اليوم لعرفت في إنو انخطف البابا". جزء من شهادة إبنة سعادة نعمة نجم، زوجة أحد المخطوفين. تحمل شهادة الإبنة ثقل ذاكرتها كطفلة رأت والدتها تصرخ في الشارع حافية القدمين، وثقل الإنقلاب الذي أحدثه ذلك اليوم في حياتها وحياة أسرتها. التغيرات في العائلات التي فقدت الزوج والأب جاءت جذرية. فأولاد أنطوانيت غطاس ياغي تركوا المدرسة وهم بين عمر الـ9 والـ17 سنة، ذلك أن ياغي لم تستطع تعليمهم. في المقابل تولت العديد من النساء وظيفة أو اثنتين. فسماح ع. التي كانت أماً لرضيع عند فقدها لزوجها، عملت في دوام صباحي حتى الساعة الرابعة في أحد المعامل. كانت تعود بعده الى المنزل لتهتم بإطعام الأولاد وإنهاء بعض الأعمال المنزلية. ليلاً كانت تنهمك بـ"شك الخرز وبيع الماكياج.. كنا نبقى الى الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل عم نشك".


تتفاقم الصعوبات المالية التي تعاني منها الزوجات، مع تعرضهنّ المستمر للإبتزاز والتهديد خلال بحثهن عن أزواجهن. ذلك أن العديد من النساء إتخذن على عاتقهنّ مهمة البحث عن أزواجهنّ لإعتقادهنّ أن الأمر سيكون أقل خطورة عليهنّ من رجال العائلة. يظهر التقرير تعرض النساء للابتزاز كمحور مشترك بينهن. والحال أن 15 إمرأة من بين الـ23 المشاركات بالتقرير وقعن ضحية إبتزاز أو أكثر. ثلاث فقط أكدن عدم تعرضهن لذلك أبداً. وقد تراوحت المبالغ التي دفعتها الزوجات بين 2000 و100 ألف دولار.


تواجه الزوجات العديد من الصعوبات، من بينها تلك القانونية الناتجة عن النظام الأبوي. فقد "تحملت الزوجات وزر الصعوبات الإدارية والقانونية الناجمة عن عدم اعتراف الدولة بوضع المفقودين القانوني". واجهت لهذه الناحية ليلي ف. صعوبة بإستصدار جوازات سفر لأولادها. "قال بدن ولي أمرن..."، وولي الأمر يكون الجد أو العم في ظل غياب الأب. تسرد ليلى ما فعله القاضي عندما ذهب والد زوجها للتنازل لها عن وصايته على أبنائها. يومها "إنفرد القاضي بعمي ليلفت نظره أنني ما زلت شابة، وأنني قد أتزوج آخر وآخذ منهم أبناءهم". تكمل ليلى: "قال له: خسرتوا حسان بدكن تخسروا ولادو؟". عانت ناهيل شهوان من الأمر ذاته قبل حصولها على وثيقة تضمن وصايتها على أبنائها. ذلك أن الأسقف اعتبر أنه "مش معقول تكون الأم وكيلة على أولادها".


تعاني الزوجات ما تعانينه من مشاكل قانونية واجتماعية وإقتصادية منذ إختفاء أزواجهن، لاسيما أن ما من سجل رسمي واحد يُبيّن أسماء المفقودين أو يظهر معلومات عنهم قبل وفاتهم. وتقدر حصيلة الحرب الأهلية "بحوالي 144,240 قتيلاً و197,506 جريحاً، و13,455 معوقاً مدى الحياة و17,415 مفقوداً أو مخفياً". بالرغم من الرقم المهول للمفقودين فالقوانين اللبنانية ما زالت لا تعترف بهم كفئة قانونية، وهم يعرّفون على أنّهم "غائبون". والتعريف الأخير غالباً ما يخضع الى إجتهادات قوانين الأحوال الشخصية، الأمر الذي يكرس اللامساواة بين عائلاتهم، ويؤدي الى المزيد من التعقيدات في مسار عيش أسرهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها