الثلاثاء 2023/12/12

آخر تحديث: 11:51 (بيروت)

من خاتشادور إلى الفاخوري: الكشف عن كنز زحلة الفوتوغرافي

الثلاثاء 2023/12/12
من خاتشادور إلى الفاخوري: الكشف عن كنز زحلة الفوتوغرافي
يقام معرض يضم مئات الصور التي تؤرخ جزءاً حيوياً من سيرة مدينة زحلة (المدن)
increase حجم الخط decrease

مع أن الزمن هو للصورة التي تتمتع بمقومات التفشي في العالم الافتراضي، ثمة سحر تتمتع به محفوظات الأسود والأبيض منها. سحر يقدر أهميته خصوصاً ناشرو صفحات التواصل الاجتماعي، الذين يبحثون عن الانتشار الواسع. فيلجأ هؤلاء إلى إغراءات الصورة القديمة، مدركين تماماً بأن نشر أحدها، سيرفع حتماً نسبة التفاعل مع صفحاتهم، خصوصاً متى كانت تلك الصور مرتبطة بذاكرة المدن وتاريخها.

ذاكرة الزحليين
هذه هي الحال في زحلة، الأصغر سناً بين المدن اللبنانية الكبرى، والتي يفتخر أبناؤها أن أجدادهم هم من بنوها من الصفر. وعليه تشكل الصورة بمعناها التقليدي، وبالأسود والأبيض تحديداً، الشاهد بالنسبة لهم على تطور مدينتهم التي احتلت موقعها بين أكبر المدن اللبنانية، مع أن عمرها لم يقفز بعد إلى الأربعمئة عام.

أهمية الصورة في هذه المدينة، بما تختزنه من مشاهد أو تحفظه من ذاكرة أشخاص، في كونها تخبر عن بيوت الأجداد التي تطورت من التراب إلى الحجارة، ولا تزال تقيم فيها العائلة نفسها، وعن طرقات شقت لأول مرة وما زالت معالمها كما هي، فنادق نشأت وازدهرت في عصر تلك الصورة، أعياد أطلقت ولا تزال مستمرة، ومناسبات متوارثة، وشخصيات ترددت إلى المدينة، ومؤسسات نشأت وما زالت قائمة، ليبرز بعضها أيضاً الدور الذي لعبته زحلة في صناعة القرار السياسي اللبناني، وفي الفن والأدب والمطبخ. مما يترك انطباعاً بأنه في منزل كل زحلي جزء من أرشيف المدينة وذاكرتها.

قسم من الأرشيف


أما الفضل في توفر معظم تلك الصور فيعود لإثنين. خاتشادور، ومن ثم تلميذه حليم الفاخوري. هذا فضلا عن ما خلفه الانتداب الفرنسي والبعثات الأوروبية التي كانت تتردد إلى المدينة قبلهما، والذي يعتبر من النوادر جداً. وقد حفظ جزء من أرشيف تلك المراحل في ممتلكات خاصة، بعضها يدرج أيضاً في أرشيف حليم الفاخوري، وبعضها يتم إستساخه من منشورات كانت تصدر بمطلع القرن العشرين ومنتصفه.

ارتبط إسما المصورين بذاكرة الزحليين، وتناقلهما الأجيال لفترة طويلة. فلا يزال إسم خاتشادور يذكر كلما بذل أحدهم جهداً مضاعفاً في التقاط صورة، وصارت عبارة "مفكِّر حاله خاتشادور" تعكس القيمة المضافة للصورة التي يسعى إليها ملتقطها. فبقي المصور الأرمني يختصر حرفية أبناء ملته في هذه المهنة، ولم يتغلب عليه سوى تلميذه، حليم الفاخوري، الذي التقط أجمل الصور لمدينة زحلة.

أربعة آلاف صورة
ولكن ذلك كان قبل أن تجتاج الميديا عالمنا. فالأخيرة لم تفسد فقط معنى الصورة ووظيفتها بحفظ الذاكرة، وإنما أغرقتها في فوضى نزعت الحقوق من أصحابها. فبات الكثيرون يشاركون صوراً قديمة على كونها ممتلكات لهم، بينما في الواقع خلفها أشخاص، ذكرهم يشكل استعادة أيضاً لذلك "الزمن الجميل" الذي بنيت فيه المدن وأدوارها. وذلك قبل أن يزيد تعلق جيل "الديجيتال" بالماضي، فعجز عن مراكمة الإنجازات في سجل المدينة، ليرتضي الوقوف على أطلالها، بدلاً من السعي إلى رفع المداميك التي أرساها الأولون.

تطورت وسائل التقاط الصور كثيراً في عصرنا، حيث بات كل حامل هاتف مصوّراً. ولكن في زمن تمحو فيه الصورة الحديثة ما التقط قبلها، يبدو مثيراً للاهتمام العثور على نحو أربعة آلاف صورة في أرشيف خلفه حليم الفاخوري، سيسمح فرزها برواية قصة المدينة، وبالصورة فقط.

القرار اتخذه إيلي أبو طعان مع مساعدته نيكول صدقة. فبعد أن حضن أرشيف نسيبه منذ سنة 1975 قرر أن ينفض عنه الغبار على مشارف مرور خمسين سنة من احتفاظه به. فيشارك الزحليين بعض ما يختزنه، بمعرض سينظم في 15 كانون الجاري بكاتدرائية سيدة النجاة، حيث سيتعانق القالب مع المحتوى لرواية فصل من فصول نشأة المدينة، من خلال أكثر من 300 صورة تؤرخ للمرحلة الممتدة بين عامي 1875 و1975.

إيلي أبو طعان وكاميرات حليم الفاخوري


الأرشيف الكبير
إيلي بوطعان ناشر صحافي لمجلة محلية تحولت إلكترونية منذ أزمة الليرة اللبنانية، ويدير مركزاً إعلامياً منذ مدة طويلة. كان دائماً من المعجبين بنسيبه حليم الذي تتلمذ على يد خاتشادور. ويعتز بمسيرته التي رافقها عدد من مخضرمي المدينة، والذين يذكرونه مع كاميراته، واقتنائه في كل فترة الأحدث منها، من دون أن يتخلى عن سابقتها، حيث سيسمح حفظها من ضمن ممتلكات الفاخوري أيضاً، بعرضها ضمن معرض "زحلة بعدسة الزمن"

فشغف الفاخوري بالصورة جعله يتغلب على أستاذه بأرشيف كبير من الصور التي وثقت لكل لحظة مهمة في المدينة، لكل حدث وزيارة تاريخية ومهرجان، يمكن عند العودة إليها وتحديد تاريخها معرفة نوع الكاميرا التي التقطت بها، فأصبح النظر إلى الصورة يحمل بهجة رؤية الماضي، ولكن أيضاً استكشاف الوسائل التي عملت على حفظه.

كانت الكاميرا في ذلك الزمن ثورة فعلية. ويذكر منها المخضرمون تلك التي كان يستخدمها خاتشادور، والتي كانت مجهزة بوشاح أسود لمنع تسرب الضوء أثناء تكون الصورة. إلا أن الفاخوري رافق مرحلة تطور هذه التجهيزات، التي تطلبت اقتناء ثلاث قطع، هي فضلاً عن آلة التصوير، البطارية التي تحمل على الكتف، والفلاش الذي اكتشفت أهميته في تحسين نوعية الصورة وإضاءتها.

فجمع حليم الفاخوري عدداً كبيراً من هذه الكاميرات، ولم يتخل عن أي منها، بل بقيت من ضمن مقنيات أرشيفه، لتتحول جزءاً من مقتنيات الـ"أنتيكا" التي استهوت أبو طعان طوال عمره كما يقول.

بعد خمسين عاماً
في المقتنيات التي يعرضها أبو طعان، ما يظهر أيضاً تطور تقنيات "نيغاتيف الصورة" وطريقة تظهيرها، وبدا مثيراً للاهتمام أن يحفظ جزءاً من النيغاتيف الزجاجي، والذي يقول أبو طعان أنه رعاه بعناية تامة من خلال الاستحصال على مواد خاصة كان يحضرها من الخارج في البداية، ومن ثم بعد وقوع الحرب اللبنانية وضع كل نيغاتيف منه بمغلف خاص، وهو ما ساهم بحفظ محتويات كل صورة، وسمح له بعد خمسين سنة بأن يعيد تظهير بعض هذه الصور لتعرض في المعرض الذي سيحضنها بالأسبوع المقبل.

إلا أن مسيرة الفاخوري توقفت في السبعينيات عندما اضطر إلى مغادرة لبنان لحماية عائلته التي نشأت عن زواج مختلط بين الديانات. حينها يمكن تصور الألم الذي شعر به الفاخوري الذي حاول أن يؤمن حضانة لأرشيفه. فكان اهتمام من أبو طعان بها.

بعد خمسين سنة من الاحتفاظ بهذا الأرشيف يبدو أبو طعان محتاراً حول مصيره. وهو كما يقول تلقى اتصالات وعروضات لتحويله جزءاً من محفوظات مؤسسات خارج زحلة، ولكنه رفض لأنه يريد أن تبقى هذه الذاكرة في المدينة.

نيكول صدقة والنيغاتيف


ومن هنا تقول مساعدته نيكول صدقة بأن الطموح هو أن يشكل المعرض نافذة تفتح على أفكار مستدامة، كمثل إنشاء مركز، يكون بمثابة معرض دائم يخبر قصة زحلة بالصورة، تماما كما هي فكرة إقامة المعرض الحالي، الذي تعتبر أن زيارته ستكون بمثابة رحلة في الزمن، إلى مراحل تاريخية من نشأة المدينة، حيث سيتولى أيضاً فريق من أدلاء "عدروب زحلة" السياحيين مرافقة زواره في محطات منه.

إلى جانب إتاحة الفرصة أمام الزوار للاستحصال على نسخ من هذه الصور، تتحدث صدقة أيضاً عن ألبوم صور مع شروحات لها طُبع للراغبين بقراءة تاريخ المدينة بالصورة. ولخدمة الأهداف البعيدة المدى تمت مكننة بعض الصور لحفظها من الضياع، بالإضافة إلى تسجيل حقوق الملكية الخاصة لهذه الصور.

هذا في وقت يؤكد أبو طعان أن ما سيعرض في المعرض ليس سوى جزء من الأرشيف الموجود لديه. مشدداً على أن هدفه من المعرض ليس تجارياً، لتتولى عنه صدقة الحديث وتشرح "بأن الهدف الأسمى هو تظهير دور أهل زحلة في بناء مدينتهم ودور المدينة في اتخاذ القرارات على مختلف المستويات، لأن هدفنا ليس أن نعلق في الماضي، إنما لنجعل منه حافزاً يستنهض مجدداً قدراتنا على مختلف الصعد الثقافية والاجتماعية والسياسية، كي لا يبقى ذلك جزءاً من التاريخ وحسب".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها