الخميس 2018/02/08

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

سوق البراغيث: احذروا النشّالين

الخميس 2018/02/08
سوق البراغيث: احذروا النشّالين
كثيرون من الزوار يقصدون السوق للتسكع
increase حجم الخط decrease

من غرائب باريس، هناك سوق البراغيث. يتقاطر إليه من أرجاء العالم هواةُ الأنتيكات والحوائج القديمة بحثاً عن أثاث نادر أو لوحة جميلة منسية أو صحون وآنية عتيقة لم تفقد جماليتها و"شخصيتها"، أو كتب نادرة، وحتى زجاجات خمور معتقة.

فلماذا سمي سوق البراغيث؟

في الواقع، التسمية الفرنسية marché aux puces تعني "سوق القمل". فعندما حلّت موضة ارتياد المكان من قبل الباريسيين، في نهاية القرن 19، كان يتعين البحث ملياً بين أكوام المعروضات، على غرار من "يُفلّي" شعر طفل تفتيشاً عن القمل لسحقه.

لماذا تجمع "القمّالون" أو "باعة القمل"، مثلما يسمون، هناك في ضاحية سانتوان، على الحد الإداري الشمالي لمدينة باريس؟ إن تاريخهم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ "الخَرّاقين"، جامعي الخِرَق والأشياء المستعملة وبائعيها. فعلى مرّ قرون، كان أولئك البؤساء يجوبون شوارع باريس ومزابلها ليلاً لجمع ما يتيسر من ملابس عتيقة وحاجات مستهلكة مرمية لبيعها أملاً في توفير لقمة العيش. وكانوا من مرتادي "باحات الغرائب"، ذلك العالم التحتي الذي يجمع الصعاليك واللصوص والسكيرين وغريبي الأطوار ومنبوذي المجتمع الأرستقراطي والبرجوازي، وحتى المصابين بالجرب.

وفي مطلع سنوات 1880، قررت سلطات باريس (بأمر من محافظ العاصمة الشهير، البارون أوسمان) طرد الصعاليك من المدينة، بمن فيهم "الخرّاقون"، في إطار مشاريع تحديث المدينة وإعطائها صورة معاصرة "معقمة". فاضطر هؤلاء إلى "الهجرة"، فباتوا يعرضون الألبسة القديمة والحوائج المتفرقة على الأرض في ضواحٍ متاخمة مباشرة لحدود باريس الإدارية، كانت غير معمّرة في أغلبها بل تكتظ بالبساتين والحقول.

وفي العام 1885، قررت بلدية سانتوان Saint-Ouen التسليم بالأمر الواقع، وتطبيع ظاهرة باتت متأصلة، تجمع كل أحد ما لا يقل عن 130 بائعاً وآلاف المتسكعين. استهدفت تلك الإجراءات إضفاء طابع رسمي لتلك التجارة وإحلال الأمن والنظام في الحي، ووضع ضوابط للمهنة، وإنهاء الشجارات بين الباعة أنفسهم جراء النزاعات للحصول على أفضل المحلات، تلك التي تؤمن العرض لأكبر عدد من المارة. كما فرضت السلطات المحلية رسوماً على الباعة. في المقابل، قامت بتبليط الشوارع تدريجاً، ومدّ أرصفة على جوانبها.

واتحد الباعة، فنظموا أمورهم وطوروا مهنتهم لكي تصبح تجارة بمعنى الكلمة. وما انفكت تتسع رقعة انتشارهم بحيث أصبحت اليوم تغطي 7 هكتارات، تطل على 12 شارعاً، وتؤمن 11 كيلومتراً من واجهات مخازن دائمة، ومثلها من طاولات العرض على قارعة الطريق. أما عدد التجار، من أصحاب حوانيت وباعة، فيربو عن 2500. ومن يوم واحد في الأسبوع، بات سوق البراغيث يعج بالحركة 3 أيام: السبت والأحد والاثنين. ويزوره سنوياً نحو 14 مليون شخص.

غالبية الزوار هم من الباريسيين، يأتون للتسكع وأحياناً للتبضع إنْ عثروا على "قملة" نادرة بسعر مغرٍ. إذ يبدو أن تجار سوق البراغيث يعتمدون صيغة مواطنهم الاقتصادي جان باتيست ساي، الذي أكد في القرن 19 أن "العرض يخلق الطلب". فما أكثر من يأتون للتسلية والتنزه و"لحس واجهات المحلات"، مثلما يقول الفرنسيون، فيقعون في فخ الشراء حين تجذب تحفة انتباههم. حينها، ينبري البائع اللبق، الذي علمته التجربة فرز "السمكة" سهلة الاصطياد من تلك التي تزوغ بسرعة.

في النهاية، يفتح الزبون محفظته وهو على أتمّ اقتناع باقتنائه شيئاً فريداً سيغلى ثمنه مع السنين، وسيبيعه بأضعاف سعره يوماً. وهي أمنية تتحقق فعلاً، إنما في حالات نادرة. فلا يمكن سوى للاختصاصيين، ممن خبروا الأنتيكات وعرفوا سوقها، فرز القطع الممكن حقاً أن تدرّ قيمة مضافة.

في أي حال، لو زرتم سوق البراغيث يوماً، فحذار من النشالين. إنهم يتربصون بالفرائس، والزوار الأجانب خصوصاً، في أماكن باريس المزدحمة. لكن ضجة سوق القمل تؤمن لهم فرصاً ثمينة، بما تجر إليه من تدافع أكتاف وانغماس المتنزهين في تأمل القطع المعروضة والتفاوض على الأسعار.

أذكر يوم طلبت مني صديقة مرافقتها لزيارة سوق البراغيث. انهمكت هي بالتحديق بالمعروضات، فعمد نشال إلى إدخال يده بخفة في حقيبتها اليدوية من دون أن يعرف أنني برفقتها. فأمسكتُ بمعصمه وأخرجتُ يده من الحقيبة قبل أن يتمكن من أخذ شيء، وحتى من دون أن تفطن المعنية نفسها إلى ما حصل. فنظر إلىّ غاضباً، وتمتم بانزعاج: "إنك تمنعني من كسب رزقي" (كذا)... وانصرف ببرود يبحث عن طريدة أخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها