الأحد 2017/08/20

آخر تحديث: 07:08 (بيروت)

المتسكع الفرنسي الذي صاحب 9 رؤساء أميركيين

الأحد 2017/08/20
المتسكع الفرنسي الذي صاحب 9 رؤساء أميركيين
لم يُكتب لجورج دو ݒاري أخذ مقاسات دونالد ترامݒ (Getty)
increase حجم الخط decrease

في العام 1960، قاد الغرامُ إلى واشنطن خطى شاب فرنسي في سن 26، يدعى جورج دو ݒاري. ففي مدينته، مرسيليا، كان قد تعرف إلى صبية أميركية، أغرم بها. فجمع "تحويشة" العمر لكي يتبعها إلى عاصمة بلادها. لكنه لم يحزر ما يخبئه له القدر.

فبعد فترة وجيزة، "شبعت" الحسناء منه، فصدَّته وطردته، وعلى ما أكده مراراً "لطشت" آخر ما تبقى لديه من أوراق خضر. فبات بين ليلة وضحاها متسكعاً من دون مأوى، يستجدي نهاراً وينام ليلاً تحت الجسور أو على مساطب الحدائق، بما فيها القريبة من البيت الأبيض، ذلك الصرح نفسه الذي ستقوده الصدف إلى دخوله لاحقاً من بابه الواسع.

استمرت حالة "الطفر" ثلاثة أشهر. إذ جاء الفرج بأن أشفق عليه خياط، فعينه كصانع أجير. فوفر شيئاً من أجره المتواضع بضع سنوات. وتمكن من شراء ماكينة خياطة خاصة به، ثم فتح محله، وسماه باسمه ولقبه الحقيقيين: جورج الباريسي Georges de Paris، وهو لقب على غير ملقّب، إذ يعني "القادم من باريس"، بينما ولد في مرسيليا الجنوبية، لوالدين أصلهما من مقاطعة نورماندي، في شمال غرب فرنسا. لكن لقبه كان كافياً لجذب النظر إليه، لما يحظى به الفرنسيون والإيطاليون من سمعة طيبة في باب الخياطة الراقية.

صدفةً، "اكتشفه" عضو في الكونغرس، كان نائباً عن ولاية لويزيانا، فأعجب بعمله، فأوصى الرئيس ليندون جونسون بحذو حذوه. فبات جورج مألوفاً لدى موظفي البيت الأبيض، الذين أوصوا بدورهم كل رئيس جديد بتفصيل بدلاته لدى الفرنسي قصير القامة، طويل الباع. ولم "يسلم" من شريط مقاساته أيٌّ من الرؤساء التسعة الذين عايشهم، بدءاً من ليندون جونسون وانتهاءً بباراك أوباما، مروراً بريتشارد نيكسون، جيرالد فورد، جيمي كارتر، رونالد ريغان، بوش الأب، بيل كلينتون، وبوش الابن. فلثقتهم بعمله، صار لسان حالهم يردد: "أنت تُفصّل ونحن نلبس... البدلات، ونحن نُفصّل والعالم يلبس... القرارات".

وعن ملاحظات جورج حولهم، ذكر أن أكثرهم تعجرفاً كانا بوش الأب وخلَفُه بيل كلنتون، وأطرفهم رونالد ريغان، الذي كان يروي له نكاتاً تسخر من الفرنسيين ويقدم له سكاكر "جلي بينز". وألطفهم نيكسون، الذي كان يسأله دوماً عن أخبار أسرته ويربّت على كتفه. وأكثرهم تهكماً جيرالد فورد، الذي اعتاد أن "يعيّره" بقصر قامته بالقول مثلاً "بدل الخياطة، كان أجدر بك أن تمارس كرة القدم الأميركية" (وهي رياضة تستوجب قامة طويلة ضخمة). أما جيمي كارتر، فكان "مثبتاً على الصامت، لا ينبس ببنت شفة أثناء أخذ المقاسات، لا يبتسم ولا يعبس".

المرة الأولى، والأخيرة، التي تعرض فيها الخياط جورج للانتقاد، كانت في تشرين الأول 2004، حيث اتهم بالتقصير، بالأحرى "التطويل" مثلما سنرى. إذ تبارى في مناظرة تلفزيونية المرشحان بوش الابن وجون كيري. فلاحظ المشاهدون ما يشبه "حدبة" صغيرة في ظهر سترة بوش، المقبل آنذاك على تجديد ولايته الرئاسية.

فكانت الصاعقة. انبرى الديمقراطيون معترضين: ما من شك، بوش أخفى لاقطة صغيرة تتيح سماع ردود مستشاره كارل روڤ، المعروف بفطنته، لترديدها كالببغاء. ذلك ما فسر، في رأيهم، التكور (بالإنكليزية bulge) في السترة. ردّ الجمهوريون بحزم أنها هفوة من جانب الخياط الفرنسي. انتفض الأخير مؤكداً أنه براء من أي تقاعس. وذكّر بأن أحداً لم يشكُ من قـصَّاته منذ عهد الرئيس الأميركي الـ36، الذي قال عنه: "كان جونسون من الطول بحيث كنت اضطر إلى الصعود على درج صغير لأخذ مقاساته".

في أي حال، أتاحت مسألة "حدبة سترة بوش" لملايين الأميركيين، وغيرهم، فرصة الضحك والسخرية. وإذا كان المفعول به منصوباً بالفتحة الظاهرة على آخره، فجورج بوش بات إثرها منصوباً عليه بالحدبة الظاهرة على آخر جاكيته. لكن، من "منافعها الجانبية" أن ذاع صيت الخياط المغمور، مثلما اشتُهر في غابر الزمان خياط الإمبراطور الصيني في أسطورة "ملابس الإمبراطور الجديدة".

لم يُكتب لجورج دو ݒاري أخذ مقاسات دونالد ترامݒ، إذ توفي قبل نحو عامين، في مطلع أيلول 2015، عن 81 عاماً، أمضى 55 منها في الغربة. حيث ألمّ به مرض عضال، لكنه لم يرغب أن يعرف أحد بوضعه المتردي صحياً، فكان خلال الأشهر الأخيرة من عمره يأتي كل صباح فيشعل أضواء محله، ثم يعود لإطفائها في المساء. والعبرة من حكايته: وراء كل عظيم امرأة. فلولا تلك الشابة التي أحبّها وتبعها إلى ما وراء الأطلسي، لما عايش تسعة رؤساء لأعتى إمبراطورية معاصرة، ونسج معهم علاقات "مقاسية"، وإن لم تكن قياسية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها