الثلاثاء 2017/05/23

آخر تحديث: 00:52 (بيروت)

ثلاثة جياد عربية أسطورية

الثلاثاء 2017/05/23
ثلاثة جياد عربية أسطورية
وصلت هذه الخيول إلى ربوع إنكلترا قبل نحو ثلاثة قرون (Getty)
increase حجم الخط decrease

نعلم جميعاً أن الحصان الإنكليزي الأصيل أسرع الخيول، وأنه المفضل لدى مالكي جياد المنافسة ومدربيها. لكن، يجهل كثيرون أنه في الواقع ليس أصيلاً، إنما نتج عن تزويج أفراس إنكليزية محلية بثلاثة فحول عربية أصيلة، وصلت إلى ربوع إنكلترا قبل نحو ثلاثة قرون. لكلٍّ منها قصة فريدة، ملحمية أو طريفة أو مأساوية:

بايرلي تُرك: الملحمة. في نهاية القرن الـ17، حمي الوطيس بين الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا والمجر وممالك أوروبا المتحالفة معها. وحين حاصرت "قوات التحالف" بودابست لاستردادها، لحظ النقيب الإنكليزي بايرلي جواداً صغير الحجم نسبياً، إنما وثاب سريع، تقدح عيناه شرراً وذكاءً، كان العثمانيون قد جلبوه من شبه الجزيرة العربية. لكنه، إثر فقدان فارسه الإنكشاري، هامَ على خطمه على ضفاف الدانوب.

فطن الكابتن بايرلي إلى أنه جواد استثنائي، فهبَّ مع عدد من جنده للإمساك به. لكن الطريد أذاق "الكوماندو" الإنكليزي الأمرَّين بسرعته وحذقه. لاحقوه أياماً، فتمكنوا من "أسره"، وسمّوه "بايرلي تُرك Bayerley Turk" على اسم الكابتن بايرلي مضيفين صفة "تُرك" لأنهم ظنوه تركياً.

اقتيد الجواد المقدام إلى إنكلترا، فأبلى بلاءً حسناً على مضامير السباقات، ثمّ "رُفِّع" إلى رتبة فحل تشبيب لحرائس الجيش. وفي العام 1758، ولد ابن حفيده "هيرولد"، الذي أصبح جواداً ما بعده جواد، والأصح ما أمامه جواد إذ فاز في سباقاته كلها، فلُقب بـ"الملك". وفي كتاب الأنساب الإنكليزي، سُجل "هيرولد" كواحد من مؤسسي سلالة الإنكليزي الأصيل الثلاثة. والآخران هما "ماتشم" (1748) و"أكليپس" (1764)، وكلاهما من ذريتي الفحلين العربيين الرائدين الآخرين.

دارلي أرابيان: الحكاية الطريفة. ولد ثاني الثلاثي العربي في حلب في العام 1700 باسم "مانيقا". ولما بلغ سن 4 سنوات، زار الحاضرةَ السورية العريقة تاجرٌ إنكليزي يدعى توماس دارلي أملاً بالظفر بجواد سَبّاق لإشراكه في منافسات بلاده وقبض الجوائز الثمينة. أعجب دارلي حالاً بالجواد الوسيم، الذي أبهره بوبره الأسود اللماع ونظراته الثاقبة. أما مالكه الحلبي، فأعجب ببندقية دارلي. فتمت المقايضة: البندقية لقاء الجواد. سُمي هذا "دارلي أرابيان Darley Arabian" على اسم مالكه الجديد مع صفة "عربي".


لم يندم توماس دارلي على الصفقة. ففي مضامير إنكلترا، أحرز "دارلي أرابيان" النصر تلو النصر. والأهم، اعتُمد أحدُ أحفاده، "أكليپس"، كثاني مؤسس للنسل الإنكليزي الأصيل. وسُمي "أكليپس" لأنه ولد أثناء كسوف الشمس في العام 1764. لكنه لم يكن "مكسوفاً" من مزاجية عالية، فقد كان مشاكساً وصعب المراس. أما على حلبات السباق، فلم يقدر مولود فرس على مجاراته.

غودولفن أرابيان: المأساة. لم يكتمل تأسيس النسل الإنكليزي الأصيل إلا مع ذرية الرائد العربي الثالث، الذي كابد قبل أن يعرف المجد. ففي العام 1725، أهدى ملك المغرب، مولاي إسماعيل، مهراً إلى نظيره الفرنسي لويس 15. كان الجواد، كهدية من عاهل إلى عاهل، موعوداً بحياة هانئة في كنف ملكي وإصطبلات فاخرة. لكن، بحسب إحدى روايتين، لم يصل المهر قط إلى بلاط لويس 15. وتؤكد الرواية الأخرى أن حوافره وطأت فعلاً "بلاط" القصر، سوى إنه لم يعجب الملك، فأهمله ولم يعد حتى يتذكره. فعمد أحد سائسيه إلى إخراجه خلسة لبيعه لقاء حفنة ليرات إلى بائع ماء متجول لاستخدامه لجرِّ عربته.


هكذا، عاش المهر الملكي مصيراً بائساً، يجرّ عربة في شوارع باريس. لكن، بعد سنوات، في العام 1731، جرَّت يد القدر إلى باريس قدمي "جنتلمان" إنكليزي يدعى كوك. أشفق هذا على الجواد، الذي بات هزيلاً ومنهكاً، وحزن لرؤية بائع الماء القاسي يحرق ظهره بالسوط، فاشتراه منه كمن يُعتق عبداً. أخذه إلى لندن، فأهداه إلى صديق له، صاحب حانة لندني. بقي الحصان فترة في مزرعة الخمّار الجشع، الذي باعه إلى الماركيز غودولفن. ما يفسر اسمه الأخير: "غودولفن أرابيان Godolphin Arabian".

عزم الأرستقراطي تعيين النازل الجديد لمنصب "مساعد" لفحل تشبيب كان يمتلكه. إذ يلجأ مربّو الخيول إلى خديعة لحمل الفرس الممانِعة على تقبل التشبيب، تنصبُّ على إظهار فحل من النوع الذي تستهويه لتهدئتها، وفي آخر لحظة، يقوم الفحل الآخر بالواجب، فلا تنتبه الفرس المخدوعة "للمقلب" إلا بعد فوات الأوان. في المقابل، حين يكون فحل التشبيب "غير مستعد"، يُرونه فرساً من النوع المحبذ لدى الفحول، أي بوبر رمادي. وفي اللحظة الأخيرة، يستبدلونها بالفرس "المرشحة"، التي لم يرغبها. فإذا كان "الرجال يفضلون الشقراوات"، الخيول تفضل الرماديات.

بعد فترة في لعب دور البديل الثانوي، سئم الفحل العربي المكابر تلك المذلة، فهاج يوماً وثار، فأفلت من يد سائسه، وقتل "غريمه"، الفحل الرسمي، الذي كان يهُمُّ بتشبيب الفرس "روكسانا". ذهل الماركيز بما رأى، فروّى قليلاً ثم أحجم برهة، وإن هو لم يقتل حصانه، فقد همّا. فقرر على العكس: "هذا الجواد العربي له من الجموح والكبرياء ما يبشر بذرية معتبرة". فأمر سائسيه بترك "غودولفن أرابيان" يشبب "روكسانا". فكان لهما ما أرادا. لكن، لم ينتهِ عند ذاك الطابع "التراجيدي" لحياة "غودولفن أرابيان". فعندما وضعت "روكسانا" ابنه البكر، نفقت لعسر الولادة. فرُبي المهر الوليد، "لاث"، على حليب الأبقار.

وبعدما شبَّ "لاث"، ابن العربي والإنكليزية، أحرز نتائج مذهلة في السباقات، ونمَّ عن أداء خارق، رغم كونه أخ عجل بالرضاعة. واعتُمد "لاث" فحلَ تشبيب بعد "تقاعده"، فولد له "ماتشم" في العام 1748. و"ماتشم"، حفيد "غودولفن أرابيان"، هو المؤسس الثالث لنسل الخيول الإنكليزية الأصيلة، واستولدت من صلبه ذرية كثيرة، قوامها 354 رأساً، تألقت كلها في ميادين بريطانيا وخارجها. فعرفت المجد بعكس جدّها العربي، "سليل" الملوك الذي عاش كعزيز قوم ذلَّ، إلى أن انتفض واستردَّ كرامته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها