ما هو سر أغلى لحم بقر في العالم؟

كيف يمكن تفسير أن قطعة ضلع بقر تباع بـ400 يورو، ولو في المزاد ولأعمال خيرية؟ ولماذا بيعت قطعة ضلع أخرى بـ3000 يورو؟ نعم، 3 آلاف يورو، ما يعادل راتب موظف من فئة متوسطة. سُجل ذلك الرقم القياسي في هونغ كونغ لإحدى قطع ضلوع پولمار، عمرها 17 عاماً، حيث كانت قد عولجت بتقنية "السبات" بالتبريد مثلما سنرى. وفي الأحوال كلها، السعر الاعتيادي المتداول يومياً لكيلوغرام واحد من الضلوع البقرية في ملحمة پولمار، في الدائرة السادسة من باريس، يبلغ 58 يورو، أي أكثر من ضعف الأسعار في الملاحم الأخرى في المدينة. رغم ذلك، في "ملحمة پولمار"، في قلب حي سان جيرمان الشهير، يتهافت زبائن كثيرون، يقفون أحياناً في الطابور للحصول على "نصيبهم" من أغلى أنواع الستيك والضلوع والفيليه والكتف والموزة وغيرها من أنواع اللحم البقري. والأكثر عجباً، أولئك الذين يحجزون طلبية على الموقع الإلكتروني للحام، عليهم الانتظار 6 أشهر إلى 12 شهراً قبل الحصول على لحمتهم.

صحيح أن ثمة ربات بيوت باريسيات، طبعاً من الأسر الميسورة، يقصدن ذلك العنوان، قادمات أحياناً من أماكن بعيدة. لكنّ أغلب زبائن پولمار هم بعض أشهر طباخي المطاعم الراقية، الحاصلة على نجمة أو أكثر في "دليل ميشلان" وغيره من المطبوعات المخصصة لتقويم المطاعم، وإعطائها علامات بحسب المذاق والتفنن في الطبخ والإبداع والخدمة والنظافة ونوعية الغلال واللحوم المقدمة، وما إلى ذلك. وإذ يستورد أحد أرقى مطاعم هونغ كونغ لحومه البقرية من پولمار، يعترف أحد أشهر طباخي فرنسا، آرنو لالمان، بأنه كان قد ألغى لحم البقر من قائمة مطعمه، ثم أعادها بعدما اكتشف لحوم پولمار، "التي لا تضاهي مذاقها أي لحوم أخرى في العالم بتاتاً"، بحسب تعبيره.

فما هي تفاصيل قصة النجاح التي أحرزها اللحام الشاب؟

في العام 2008، عقب حيازة شهادة البكالوريا الثانوية، ذهب ألكسندر پولمار إلى نيويورك لكي يمضي فيها سنة لتعلُّم الإنكليزية تمهيداً إلى العودة للتسجيل في كلية التجارة العليا. لكنه، وفق ما يروي، غيّر رأيه بعد أيام. يوضح: "كنت جالساً على سُلم كنيسة تطل على الجادة الخامسة من نيويورك، أتأمل منظر تساقط الثلج الرائع. فهالني أن الناس يمرون وهم في غاية اللامبالاة، مستعجلين ومهمومين، يهرعون إلى المترو أو سيارات التاكسي". يضيف: "أرعبني انشغالهم لدرجة تمنعهم حتى عن تأمل جمال الطبيعة، فقلت لنفسي إني لا أريد أن أصبح مثلهم لو بقيت هناك". فاتصل بوالده، وأخبره أنه قرر التخلي عن الدراسات العليا "لأنها تحجِّر المخ"، في رأيه، وأنه عقد العزم على العودة حالاً للتفرع لإدارة مزرعة العائلة في سان ميهييل، في منطقة لورين (شمال شرق فرنسا).

آلُ پولمار يمتهنون تربية الأبقار منذ 4 أجيال، وتجارة اللحوم منذ 6 أجيال. عاد الابن "غير الضال" إلى الضيعة، وبدأ في سن الـ19 يدير مراعي الأسرة، الممتدة على 120 هكتاراً. فقرر إضفاء طابع خاص لأبقارها، أشبه ببصمة مميزة تحاكي تلك التي تشتهر بها أجود أنواع النبيذ. فبدأ يختار أفضل الأبقار من فصيلة "شقراوات أكيتين"، ويوليها رعاية خاصة، ويدللها بشكل لا تعرفه "بنات جلدها" في أي مكان آخر. إذ تنعم أبقاره بفرش وفيرة ونظيفة من القش الجاف، المستبدل بانتظام، وتتغذى على علف طبيعي عضوي، وتسرح يومياً في مراعي الأسرة، التي قسمها ألكسندر پولمار إلى قسمين: المرعى الصيفي والمرعى الشتوي.

نجحت الخطة، فاكتسبت ملحمة الأسرة في قرية سان ميهييل سمعة طيبة، وبات يؤمّها أشهر طباخي المنطقة. وذلك ما حضّ القصاب الشاب على فتح فرعه الباريسي في العام 2014، على مساحة بسيطة نسبياً من 52 متراً مربعاً، في زقاق من المفارقات أن اسمه أصلاً هو "شارع الملحمة الصغيرة rue de la Petite boucherie". ثم فتح فرعاً في روما في العام 2015، وينوي فتح فرعين آخرين في هونغ كونغ ونيويورك... الحاضرة إياها التي انطلقت قصة نجاحه جراء نفوره من نمط العيش فيها. والبقية تعرفونها.

بقي القول إن طريقة "تسبيت" اللحم، إي إدخاله في "سبات"، تنصب على وضعه في آلة خاصة بدرجة ناقص 43 مئوية، لدقيقتين، وتعريضه لتيار بارد بسرعة 120 كيلومتراً في الساعة. تلك التقنية تحفظ اللحم بشكل مذهل، بحيث يظل تماماً مثلما هو عليه وقت الذبح. وذلك ما يفسر بيع قطعة ضلع من ملحمة پولمار تم "تعتيقها" 17 سنة على ذلك النحو. تمت "الصفقة" في هونغ كونغ لقاء 3000 يورو، مثلما أسلفنا.