الإثنين 2017/02/27

آخر تحديث: 01:49 (بيروت)

أحد بدارو للأثيوبيات: صلاة وذكريات وضحك

الإثنين 2017/02/27
أحد بدارو للأثيوبيات: صلاة وذكريات وضحك
في كنيسة الفرنسيسكان كل يوم أحد هو عيد للأثيوبيات (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease
بقي حي بدارو محافظاً منذ الستينات على سكانه القدامى، وشوارعه المنظمة والنابضة بالحياة. ومع تصنيفه بين المناطق الراقية في بيروت، يشكل الملاذ الاجتماعي والثقافي والديني للجالية الأثيوبية، التي يعمل معظم أفرادها في لبنان بمداخيل ضئيلة جداً.

الأرجح أن ثلاثة أسباب أساسية ربطت الجالية الأثيوبية عاطفياً ونفسياً بهذه المنطقة: أولاً، قيام السفارة الأثيوبية الأولى على تخوم الطيونة، وذلك لمدة طويلة من الزمن، قبل أن تنتقل إلى مكان آخر. ثانياً، وجود منظمة "كفى" التي حملت قضية العاملات الأجنبيات على عاتقها منذ سنوات، وثالثاً، تفضيل العاملات الأثيوبيات، الساكنات في الشق الغربي من بيروت والضاحية الجنوبية، التفسّح في منطقة مسيحية قريبة منهنّ.


هنا، في كنيسة الفرنسيسكان، كل يوم أحد هو يوم عيد بالنسبة للأثيوبيات. ثمة شيء من الاحتفال، يمكن أن تستشعره في المكان، من دون سماع صخب العيد و"بهرجته". يعتبر مبنى الكنيسة الناصع البياض، جزءاً من مجموعة أبنية بناها الانتداب الفرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي، وتضم مستشفى، جامعة وكنيسة. يتجاور بياض هذه المباني الأنيقة والبسيطة يوم الأحد، مع بياض لباس الأثيوبيات الخاص بالمناسبة.

تضيق قاعة الصلاة بالمؤمنين الذين يقصدون المكان من أرجاء مختلفة، فيقف المتأخرون في الخارج، يمارسون طقسهم بسلام، من دون الالتفات إلى ما يحيط بهم. نساء كثر، ورجال لا يتعدى عددهم أصابع اليد، وطفل واحد بدا وسط الجميع، الوحيد المستعد للتواصل. يتكلم الصبي العامية اللبنانية بشكل عادي جداً مع بعض الكلمات الفرنسية. أسأله إذا كان يرتاد مدرسة خاصة بهم، فيظهر لي أني لم أُوفق تماماً في اختيار كلماتي، فتتدخل الأم، وتخرج عن صمتها لتقول بشيء من الانفعال أن إبنها يرتاد مدرسة مار ضومط، وهي مدرسة لكل الأطفال.


على بعد أمتار من الكنيسة، دكان صغير يبيع الخبز الأثيوبي المصنوع محلياً، وطرحات بيضاء مستوردة من بلد المنشأ مثل التي تلبسها غالبية زائرات الحي هذا الصباح. يبدو الخبز الأثيوبي، واسمه إنغارا، شبيهاً جداً، من حيث الشكل على الأقل، بالقطايف الكبيرة في مطبخنا، وتُباع كل أربعة أرغفة مع بعضها بكيس نيلون شفاف بسعر لا يتجاوز الألف ليرة. أما أغطية الرأس، الناتالا، فمن الكتان الأبيض المجعد والشفاف، وتحمل عند طرفيها تطريزات يدوية بألوان صارخة. ثمن الناتالا الواحدة 30 دولاراً، وهو ثمن غير قليل بالنسبة إلى البنات اللواتي لا تتجاوز أجورهن 150 دولاراً في الشهر. لا يحكي صاحب الدكان عن الأجنبيات بلغة محببة. يقول: "لا نتعلق بهم ولا نصادقهم. نبيعهم ما هم بحاجة إليه فحسب".


بعد الدكان، وعلى الضفة الثانية من الشارع، بناية الرياشي ذات الدرج الواسع والنصف دائري. تتخذ الصبيات الأثيوبيات من الفسحة الرخامية الكبيرة أمام المبنى، محطة للراحة والاسترخاء. يجلسن مجموعات من اثنين أو أكثر. بعضهن صديقات قديمات، كما يبدو من طريقتهن في الكلام والتصرف، لكن حتى اللواتي التقين للتو، لا يجدن صعوبة بفتح حديث شيق مع بعضهن. يتحفظن على الكلام مع الغريب، المُتطفل عليهن في ساعاتهن القليلة المخصصة لأنفسهن. تقبل واحدة منهن أن تحدثني أخيراً. تقول إنها جاءت إلى لبنان منذ نحو 10 سنوات، لأنها لم تحرز في امتحاناتها الثانوية علامات تخولها الدخول إلى كلية التمريض، ولم يعد أمامها في حينها سوى الاختيار بين كلية التعليم وكلية الشرطة اللتين تمقطهما.

تركت كل شيء وجاءت لتعمل في خدمة البيوت. تقول، إبنة 27 عاماً، إن الناس الذين تعمل عندهم "جماعة مناح"، وأنها تخرج يوم الأحد مع صديقاتها. تلتقي بهن في الكنيسة، يصلين سوياً، ثم يزرن أسواق البربير ويدخلن محال بيع السلع الصينية الرخيصة، أو يذهبن إلى الدورة حيث توجد مطاعم عدة تقدم المطبخ الاثيوبي. تختم الشابة بأنها تشتاق إلى بلادها، وتفكر في العودة من أجل أن تتزوج وتفتح محلاً تجارياً تديره بنفسها.



إذا مررت يوم الأحد أيضاً، لكن خلال فترة بعد الظهر في الشوارع الصغيرة المتفرعة، ستأتي إلى مسامعك أصوات نسائية لمجموعات تتبادل الأحاديث بلغة غريبة. مقابل مدرسة سيدة الملائكة، مثلاً، بناية قديمة ومهجورة، مدخلها محجوب عن الطريق العام. ألحق الصوت، فأرى على سفرة الدرج 8 نساء يفترشن الأرض وقد رصفن أمامهن مجموعة كبيرة من الطناجر وعلب البلاستيك والصواني المعدنية، التي نقلن بها طعامهن الذي أعددنه بكميات كبيرة الليلة الفائتة في بيوت أرباب عملهن.

لا تمانع الأكبر سناً من انضمامي إليهن، فتعطي بذلك الضوء الأخضر للأخريات الموجودات أن يقبلن بي ويروين القليل من كثير يعشنه. تخبرني واحدة منهن، عن الموجود على المائدة أمامي. تقول إن طعامهن نباتي، قوامه بشكل أساسي العدس، أو الشمندر أو البطاطا، وفيه حر كثير. تقطع لي قطعة خبز تشبه الغاتو، على وجهها حبات البركة، وتصب لي كوب ميرندا. أنهيه، فتملأ من أجلي واحداً آخر، بينما تروي، فتقول إنهن اخترن أن يجلسن هنا لأنهن أتين من مناطق بعيدة ومختلفة، من الحمرا والأشرفية والمنصورية وبرمانا. جلسن هنا لأنهن بلا بيوت، وطبعاً هكذا لقاءات لن ترغب بها "المدام" التي تنزعج من الضجيج ورائحة الطبخ الحادة.

تحكي لي صبية أخرى، عن يومياتها كأنها لا تحكي عن نفسها. تقول: نحن لا نؤمن بالقانون، نحن نؤمن بالله. إذا تعرضت لنا السيدة التي نعمل لديها، وذهبنا لنشتكي في المخفر، سوف يدافعون عنها هي، حتى لو كانت على خطأ. علينا أن نتحلى بالصبر دائماً ونصلي كثيراً. تقول أخرى إنها تتذكر زوجها وأولادها طوال الوقت، لكن ما يواسيها أنها ابتعدت عنهم من أجل أن تؤمن لهم حياة أفضل. أسألها إن كانت ستعمل عندما تعود إلى المنزل، أو أنه نهار عطلة كامل، فيجبن بصوت واحد وساخر أن أكوام الجلي تنتظرهن. 


صالونان للتزيين النسائي ينشطان في مفرقين متقابلين. أدخل واحداً. تستقبلني صبية مرحة ولطيفة، بلباس ضيق ومثير، وشعر أشقر مسرّح بعناية، وأظافر طويلة مطلية بأحمر لماع. لم تمانع الفتاة أن نتبادل أطراف الحديث، لكنها لم ترغب في التصوير داخل المحل ولا في اعطاء إسمها. حدثتني عن الويغ، وهي إضافة من الشعر المستعار رائجة جداً بين الأثيوبيات، اللواتي ككل النساء اليوم، لا يترددن أبداً في الجلوس ساعة ونصف بين يدي الكوافيرة، ودفع 40 دولاراً من أجل الحصول على الويغ.

في مشهد الصالون فرح كبير وحياة تنبض بحيوات نساء تركن خلفهن أحبة وأصدقاء وأهلاً وربما أطفالاً أيضاً، وجئن إلينا، ليعملن في واحدة من أكثر المهن المجحفة في العالم. لكنهن، رغم هذا، قادرات على صنع لحظات للجمال والسعادة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها