الأربعاء 2016/06/08

آخر تحديث: 16:56 (بيروت)

زغرتا- إهدن: حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي

الأربعاء 2016/06/08
زغرتا- إهدن: حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي
في المخيّلة الزغرتاويّة العميقة، إهدن هي الأجمل وهي الملجأ (شفيق مكاري)
increase حجم الخط decrease
في آخر شهر أيّار من كل سنة، تختلف طبيعة الأسئلة عندما يلتقي الأصدقاء والأقرباء ببعضهم البعض في شوارع زغرتا ومقاهيها وبيوتها. فبدلاً من سؤال "كيفكم؟" المعتاد، يصبح السؤال: "نضّفتوا؟". إن كان الجواب إيجابياً أو سلبياً، يلي الرد على السؤال شرحاً مطوّلاً: "نعم من زمان لأن جايي إبني من السفر"، "لأ بعد، لأن إختي بدها تولّد هون بزغرتا فمأخرين بالطلعة"، وغيرها من الأخبار التي يتعرف إليها السائل، بسبب ارتباط حياة الزغرتاويين في هذه الفترة من السنة بـ"طلعتهم" إلى إهدن.

النساء من جهتهنّ، إذا كنّ قد "نضّفن"، تتحدثن كلّ بحسب تجربتها. بعضهنّ تتباهى بأنهنّ يقمن بكل شيء بأيديهنّ، ثم يرفعن الأصابع العشرة دلالة على ما جاء للتوّ على لسانهنّ، ويذكّرن بأنهنّ لا تثقن إلا بعملهنّ فـ"البيت ما بتعرفه غير صاحبته". وأخريات تشكين من عاملات التنظيف الكاذبات فتقول إحداهنّ: "ربطت (أي حجزت) عليها قبل بشهر وتركتني وما إجت"، أو تشكين من سعر "التنضيفة" الباهظ معلّلة: "بيتي كله أوضة وحمّام". لكن مهما اختلفت التجارب، يبقى الترتيب المنطقي لعملية التنظيف واحداً عند الجميع: الخزائن أولاً لترتيب داخل البيت، ثم المطبخ وأدواته، ومن بعدها الشطف والمسح والتلميع.

بعد أن تصبح البيوت نظيفة ويبيت فيها أهلها في عطلة نهاية الأسبوع على مدى أسبوعين تقريباً، يحين موعد الانتقال النهائي. ظاهرة الشعب الواحد في مدينتين، يقول عنها الدكتور في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية أنطوان الدويهي، إنّها نادرة خصوصاً أنّ الانتقال يكون شبه كامل. ففي منتصف شهر حزيران من كل سنة، تفرغ زغرتا من سكانها دفعة واحدة. ينتقلون، كلهم معاً، كغيمة واحدة تكدّست فيها الكتل، من الساحل إلى الجبل.


زغرتاويّون أو "هَدادِنة"؟
يشير الدويهي، مؤلف "مجتمع زغرتا: البنى الاجتماعيّة- السياسيّة للجبل اللبناني 1861-1975"، الصادر بالفرنسية عن "دار غوتنر-باريس"، إلى أنّ إهدن هي الموطن الأصليّ. ففي أوائل القرن العشرين لم تكن كلمة "زغرتاوي" موجودة بعد. وابتداءً من القرن الخامس عشر، أو قبل ذلك، استطاع أهالي إهدن أن يتخذوا لأنفسهم مشتى، يهربون إليه في فصل الشتاء تاركين خلفهم جبالاً قاسية وصعبة. هذا المشتى كان زغرتا، وهو عبارة عن ضيعة على تلة تعلو عن سطح البحر 100 متر ومحوّطة بالأنهار.

وبحسب الدويهي، كان نزول الإهدنييّن إلى السهل مغامرة كبيرة، خصوصاً أنهم يدخلون حيّزاً قريباً من طرابلس، عاصمة العالم المملوكي والعثماني في المنطقة. كانت إذاً زغرتا موقعاً لشتاء "الهدادنة"، أي الإهدنيين بلغتهم العاميّة، يمضون فيها ثلاثة أشهر تكون فيها الزراعة والاعتناء بالمواشي غير ممكنين، ويعودون إلى إهدن ويلازمونها خلال التسعة أشهر الأخرى. لكن الأمور لم تكن لتبقى على حالها، فبعد نشأة لبنان الكبير عام 1920، انتقل الثقل الإقتصادي إلى الساحل، حيث شقّت طريق طرابلس- بيروت، ونمت بيروت على مختلف الأصعدة، وبالتالي عرفت زغرتا اهتماماً أكبر، إلى حدّ انقلاب الآية. فأصبح الأهالي يمضون 9 أشهر في زغرتا وثلاثة في إهدن التي أضحت مصيَفاً.

25 دقيقة بين عالمَين
في تشرين، تفرغ السيارات إهدن من سكّانها مرّة واحدة لتعود هذه الغيمة تدريجاً. تتفكّك على الطريق نزولاً إلى أن يعود كل إلى بيته في زغرتا. 25 دقيقة في السيارة هي مسافة الطريق من عالم إلى آخر مختلف كليّاً: من زغرتا السهل المتوسّطي القريب من البحر والقائم على زراعة الزيتون والليمون، إلى إهدن الجبال العالية على كتف وادي قاديشا وأمكنة مكسوّة بغابات الشربين والصنوبر والأرز. عالمان يفضّل الزغرتاويّون منهما عالماً واحداً هو الجبلي. ففي المخيّلة الزغرتاويّة العميقة، إهدن هي الأجمل وهي الملجأ.

بالنسبة إلى كلّ زغرتاويّ، إهدن هي المكان الأجمل في العالم، هي "جنّة عدن" يحملونها معهم في أحاديثهم وأسفارهم وبين أصدقائهم الغرباء عن المنطقة أو عن البلد، ويغنون لها المواويل والعتابا أثناء لقاءاتهم حول كأس من العرق: "عَ درب بيتِك تبقي إهدِني، وكاسات حبِّك بإيدك إهدِني، لا تسأليني منَيْن أنا أنا إهدِني، بيبقى عالي جبيني علوّ السحاب". وكلّما أرادوا أن "يبيّضوا وجههم" مع ضيف غريب، زوّروه إهدن أو أرجأوا زيارته إلى الصيف لكي يتسنّى لهم استضافته بالشكل الأفضل.

أمّا الأهالي أنفسهم، فيولون اهتماماً أكبر لبيت إهدن، الذي يسكنون فيه ثلاثة أشهر فقط على حساب بيت زغرتا، رغم أنه يحتضنهم وقتاً أطول. فتسمع أحدهم يقول: "يا ريت لو يكون لبيتي عجلات، آخذه معي إلى زغرتا وأعيده في الصيف إلى إهدن". كأن ذلك يرجع إلى شعور الزغرتاويين أنهم في زغرتا "مؤقتاً"، وهي أشهر تمرّ عليهم "كيف ما كان" ريثما يعودون إلى موطنهم الأصليّ.

أما عن إشكاليّة الإنتماء "المشروع" إلى مكانَين، فيقول الدويهي إنّ واحداً من آثار ذلك على أهالي المدينتين أن الزمن عندهم ليس خطيّاً كما هو عند الجميع، بل إن الزمن عند الزغرتاويين دوريّ. فيحسبون الأيام والأشهر بحسب "الطلعة والنزلة" بين زغرتا وإهدن، ما يؤثر على لاوعيهم الجماعي، ويجعلهم يفكّرون بالزمنين على أنهما منفصلان ربّما: زمن زغرتا وزمن إهدن.

ويشير الدويهي إلى أمر لافت جداً في هذه الظاهرة. ففي مرحلة "حوادث" زغرتا التي امتدت ما بين عامَي 1952 و1970، والتي راح ضحيّتها عدد كبير من القتلى، كان مسرحها زغرتا. "أمّا إهدن، فنادراً ما يُعرف عن قتال دار بين أبنائها على أرضها، رغم أنهم في زغرتا كانوا يتقاتلون". إذاً، في العمق يحرص "الهدادِنة" ألّا يقدموا على "الخطيئة" في جنّتهم فيدنّسوا أرضها ويُطردون منها، بل ينقلونها إلى مكان آخر اختاروه ليبقوا فيه طوال أشهر يردّدون: "الله يرحم جدودنا اللي عطيونا إهدن".

انشقاق عن السرب
لكن هذا الملجأ بدأ يضيق مع الوقت. فالظروف الإقتصاديّة جعلت بعض روّاده الأصليّين غير قادرين على تحمّل كلفته. ففي السابق، يذكر الدويهي، كانت الحياة بسيطة والبيوت صغيرة، تقتصر على غرفة نوم للعائلة ومطبخ وحمّام.

أمّا اليوم، فتفكّر إحدى السيّدات أن تنشق عن السرب، وألّا تنتقل مع الأهالي إلى زغرتا. تقول إن "إهدن أصبحت مصيفاً سياحياً حتى بالنسبة لأهلها". فنمط الحياة فيها صار مكلفاً، بسهراته وضهراته، حيث أن صارت أسعار المطاعم والمقاهي باهظة، وحتى أسعار الخضار والفاكهة "مدَوبلة" عمّا هي في متجر الخضرجي نفسه في زغرتا. وهناك كثر مثل هذه السيدة يفضّلون أن عرض بيوتهم في إهدن للايجار فيما يبقون هم في زغرتا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها