الجمعة 2015/07/03

آخر تحديث: 16:12 (بيروت)

الشيعية السياسية

الجمعة 2015/07/03
الشيعية السياسية
increase حجم الخط decrease

لا يجوز أن تمرّ الولادة الميمونة لـ"المجلس الوطني" بهذه العجالة وتغدو سريعاً كأنها لم تكن. فإعلان الدكتور فارس سعيد عن المولود الجديد لـ "الأمانة العامة"، أخرج إلى النور ما لن يمكن تجنّبه: "مجلس" بمعنى الجلوس، و"وطني" بمعني المحلّي. وبفضله يكون لبنانيون إضافيون قد أمسكوا مصائرهم بأيديهم وصار لهم مطرح خاص يُمضون فيه سحابة اليوم في دردشات وطنية مسؤولة، فيوثّقون تعارفهم ببعضهم البعض، وقد يتداولون بأمور لا تعنيهم، ويحتسون القهوة أو النسكافيه حسب الطلب، ثم يتقاضون المعلوم آخر الشهر كُلٌّ بحسب قربه أو بُعده عن خطّ الزوال. ولا بد أن يتخلل دورة العمل التي لا تهدأ، ولائم صغيرة وحفلات مناسباتية ومشاوير مشتركة سواءٌ إلى المقاهي أو المطاعم أو ربما إلى المسابح. فالشباب أيضاً، لمن يتناسى، يحبّون الحياة. أما المحصلة العملية الحقيقية فهي أن الدكتور فارس بات أكثر حرية في "الأمانة"، واتسع أمامه مدى الفراغ، فبات بوسعه بذل المزيد من الجهد، صوتاً وصورة. ولا بأس إن لم تثمر كل جهوده، كالعادة، فالعبرة بالنوايا.

من ناحية أخرى فإن إنجاز الولادة على أهميته، لم يكسر النحس الذي يركب البلد، فلا الحكومة حكمت ولا المجلس النيابي شرّع، وبقي التعطيل سيد الساحة. إلى ذلك فالعاملين عليه والساعين إليه، وبدلاً من التبرّؤ من ارتكابهم  والسعي إلى "تغطية السموات بالقبوات"، رأيتهم يتغاوون بما يفعلون إلى حدّ أن ينسبوا لذواتهم اختراع بارود تعطيل الحكومة والبلد. ولعمري إن هذا الادعاء هو سرقة موصوفة. فقد عرف البلد هذا الصنف من التعطيل في العام 2005 تحت تسمية الاعتكاف. وحتى لا يصدّق أنفسهم الذين يعتقدون أن العام المُشار إليه كان بداية للتاريخ أو... نهاية له، أجد من المناسب التذكير بأن الاعتكاف كاختراع  ظهر قبل ذلك بكثير، إذ اندلع في أواسط سبعينات القرن الماضي، وامتد على أكثر من سبعة اشهر "كرامية" مشهودة، شكّلت يومها المدخل المنطقي والعملاني لما أسموه "حرب السنتين"، هذا الحرب الوَلادة التي راحت تتناسل حروباً متواصلة لا تريد (أو لا نريد لها) أن تنتهي.

وبلا مواخذة فمن العيب اعتبار اعتكاف الحكومات نتيجة حتمية للاضطراب الأمني. ذلك انه على امتداد حربنا  الأهلية الضروس، لم تتعطل السلطة الإجرائية ولا السلطة التشريعية في البلد، وبقي العمل الحكومي خارج لعبة الموت والدمار. ويُقال في هذا الشأن أن الفضل يعود إلى اختراع لبناني كبير إسمه "المرسوم الجوّال" الذي لا يُحرق ولا يٌغرق،  ثبُت أن مخترعه كان أحد أحفاد "كالينيكوس البعلبكي" مخترع النار الإغريقية التي لا تطفئها أمواه البحار. وقد أمكن بفضل هذا الجوّال تواصل واستمرار عمل السلطتين تشريعاً وإجراءً في عزّ الحرب، رغم أنف حفنة من الضباط السوريين الأشقاء الذين كانوا يتحكّمون بلبنان عكس حركة التاريخ ورغبة نظامهم في تلك الأيام.

إلى ذلك فالاعتكاف لا يعطّل الجمهورية بالضرورة. فالرئيس الموَلّي عاش الثلث الأول من عهده غير الميمون مع حكومات متبطّلة معتكفة، ولم تخرب الدنيا، بل أضاف الرجل إلى مظهره النظارات. الثلث الثاني من العهد أمضاه سوّاحاً، كما يقول النكِدون، وكان يختار بعناية صفيقة بلداناً لا يمكن البتّة أن تعود سياحته فيها بأي فائدة أو جدوى للجمهورية. واليوم يتضح أن الثلث الثالث من عهده الذي أودى بالجمهورية وانتزع بصلتها، أمضاه وهو يحضّر ماذا سيقول وكيف سيتصرّف بعد انكشاف عهده والبنكنوت.

بالعودة إلى المولود الجديد سوف لن أجادل من يعتقد أنه لن يشكّل قيمة مُضافة، فالجدال مكروه هذه الأيام، وهو  يُفسد في الودّ كل قضية، ثم إن الأمر لا يحتاج إلى شهود لأن شهوده "منه وفيه". فالمجلس أدّى دوراً بارزاً فور ولادته حين حَرَفَ الأنظار عن ضوضاء ساعة التخلّي داخل الأم الولّادة للأمانة العامة، أعني "تيار المستقبل". فعلى ما هو معلوم ومكروه أيضاً، اهتزّ التيار بعنف على خلفية أفلام رومية وضُبِطَ يتمايل في صالة الترنّح الداخلي بسبب نفخة زائدة، ما لبث أن تبيّن أنها ناجمة عن اعتمال بخار الخسّ في الراس. ووسط الفوضى التي نشأت جاءت ولادة الحفيد المبارك لتسحب الأضواء إليها، قبل أن يهبّ الكيان المولود ليغطّي عورة التيار التي كشفها الترنح والخسّ. واستنتج المستنتجون أن الدفاع عن الجدّ مقدّسٌ مثل الدفاع عن الوطن، وأن المجلس الوليد دافع عن التيار التليد الذي هو جدّه لأمه، الأمانة العامة، فاستبشروا جرّاء ذلك بالخير باعتبار أن الديك الفصيح من داخل البيضة يصيح.

قد يتوقف التاريخ مُتعَباً بعض الأحيان، لكن "الأكشن" في لبنان لا يتوقف ولا يتعب. فبينما جماهير المريدين تواصل عملية الاستمتاع الإفتراضي بـ "كاسات المغلي" التي لم تُوزّع في مولد المجلس الوطني، راح البلد يغلي على نار أخرى جديدة ومستغربة. فللمرة الأولى منذ توافق هؤلاء على التخلّي عن فرنسا مقابل أن يتخلّى أولئك عن سورية، حدثت عجيبة غير مسبوقة في تبادل الأدوار. الذين إتُّهِموا تاريخياً بالتقسيميين والإنعزاليين، باتوا اليوم الأشد تمسّكا بلبنان، كآخر ميناء لهم في هذا الشرق المفترس، بينما الذين كانوا طليعة العروبيين والقوميين، نكصوا على أعقابهم وارتدوا عن تاريخم النضالي إلى حظيرة التدين، وراح قائلهم يندب ما أسماه "مظلومية" الطائفة التي ينتمي إليها، مهدداً بما أسماه "انتفاضة شعبية" ليخلص إلى القول ".. وسنحكم لبنان وحدنا". ويبدو أن كلامه كان "من طبيعة رمضان"، فلم يؤاخذ عليه، إلا أنه استعاده بعد الإفطار، فلم يستصوبه، فقرر أن يصوّبه، وليته لم يفعل، إذ جاء "ليكحّلها، فعماها". قال لإصلاح الخراب: "... فإذا.. وإذا.. وإذا.. فلتكن لكم مناطقكم ولنا مناطقنا. وليعش كلّ منا لوحده"، على أساس أن هذا التصريح هو توحيدي غير تقسيمي، وعلى أساس أن القائل يتوجه إلى من هم خارج جماعته.

طبعاً الشيخ المذكور لا يمثل أكثرية الطرف الذي يحاول احتكار التحدث باسمه، لكن التصدّي لطروحاته  يحمل مخاطر إيقاد النار في هشيم جمهور جعلوه مرتهناً لأحقاد ملتبسة وتاريخ مدسوس. وهذا من شأنه أن يزيد من ثقل الحمل الثقيل أصلاً والذي قَدَرُ "المستقبل" أن يحمله، بما هو حركة سياسية أنشأها الرئيس الشهيد عروبية وطنية تقدمية ليبرالية منفتحة ومؤمنة بلبنان أولاً. وهذا يضع التيار أمام تحديات جِسام يفرض المنطق أن يدعمه من أجل القيام بها، كل أطياف البلد الذين هم خارج عباءة التطرّف، من الغيارى على غد أولادهم.

الكلام موجّه إلى الشيعية السياسية  من باب أولى. فهل تهبّ وتتصدّى لهذا النوع من المهام الذي لا شكّ أنه يوازي على الأقل إن لم يبزّ في الأهمية، دفاعها عن الثغور وعن البلدات وعن الناس وعن لبنان كلّه في محصّلة الأمر، ضد الشرّ الأسود؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب