وربما كان لبنان أول من افتتح أو افتُتحت فيه الحروب الهجينة المنسيّة في سبعينات القرن العشرين السعيدة مع ستيناته الأسعد. وقد تُرِكت تلك الحرب تعسُّ وتتناسل دهرًا في لبنان (1975–1990)، حتى ذهبت أخيرًا، مثالًا أو نموذجًا عالميًا أو دوليًا ساطعًا على الحروب الهامشية الهجينة، فصار يقال "اللبننة" عن كل حرب أهلية، إقليمية ودولية بالوكالة، هُمِّشت وصارت من المنسيات والمهملات.
لكن ها هو قلب العالم، بل العالم كله، يستفيق من سباته على نفير الحرب البوتينية على أوكرانيا، ليكتشف أن الحرب الغاشمة هي التاريخ. وأن السلام في قلبه ومركزه ليس أكثر من سحابة صيف عابرة وسعيدة. وأن غضَّ الطرف عن تدمير الشيشان وغروزني، وعن جورجيا وأبخازيا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا قبل الحرب البوتينية الأخيرة عليها، وعن لبنان وسوريا واليمن والعراق، وتلزيمهما لحرس إيران الثوري بعد يأس دول قلب العالم من حروبها فيها، ليس سوى تنصّل موقت من التاريخ الدامي الأليم.
وربما وحده وزير خارجية أوكرانيا، دميترو كوليبا، تنبّه -أثناء الزحف العسكري الروسي البوتيني على بلده وتدمير مدنه- إلى ما تُرك لبوتين أن يفعله في سوريا، فقال: يجب على العالم ألاّ يتركه يفعل ذلك في أوكرانيا الأوروبية. وربما هو ما كان ليتذكر سوريا ويذكرها، لولا الزحف البوتيني على بلده ليجعل عاصمته كييف مثل حلب وحمص. والوزير الأوكراني تذكّر ذلك وقاله واقفًا في العراء والصقيع إلى جانب وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن، على الحدود الأوكرانية- البولندية، فيما الأوكرانيون يفرون من بلدهم إلى ديار السلام والأمن الأوروبية.
ووقف الوزيران تلك الوقفة قبل أن يأويا إلى خيمة نُصبت على حدود دول الناتو الأوروبية. وهي تذكّر بخيمة مماثلة نُصبتْ سنة 1958 على الحدود السورية- اللبنانية ليأوي إليها رئيس الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) جمال عبدالناصر، والرئيس اللبناني الجديد آنذاك فؤاد شهاب. وذلك بعد واحدةٍ من تلك الحروب الأهلية الهجينة الصغيرة والعابرة في لبنان. وهي كانت حربًا محلية، أدت تشابكاتها الإقليمية والدولية التي بعثتها إلى نزول فرقة من جيش البحرية الأميركية على شاطئ بيروت. فآنذاك كانت الحرب العالمية الباردة لا تزال في ذروتها، قبل أن ينصرف قلب العالم أو مركزه إلى إحلال الاقتصاد التبادلي والتنافسي المعولم قطبًا راجحًا في مساره، محل سياسة القوة العسكرية والحرب.
وأيقظت البوتينية الروسية اليوم سياسة القوة والحرب في أوروبا، مستفيدة من الاقتصاد المعولم ورخاء قلب العالم، وغضّه الطرف عنها ومساومتها في شرق أوروبا الأقصى أو أوراسيا، وفي سوريا التي جعلتها مختبرًا تجريبيًا لفاعلية أسلحتها الحربية الجديدة التي صنّعتها وحدّثتها بفائض ما جنته من صلاتها الاقتصادية بالعالم، وتحديدًا بأوروبا التي تمدّها بالغاز والنفط الروسيّين. هذا فيما أقلعت أوروبا عن التصنيع العسكري وتحديث جيوشها، وانصرفت إلى الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي، طاردة الخوف والرعب من قلبها، بعد زوال الستار الحديدي السوفياتي.
وفيما كان الجيش الروسي البوتيني يزحف على أوكرانيا، هبَّ بعض الروس المتأوربين ربما، إلى المطالبة بوقف ذاك الزحف الحربي، فاعتقلت السلطات البوتينية ولا تزال تعتقل منهم الألوف. وأصدر الكرملين بيانًا قال فيه: ليس الآن وقت الشِّقاق والانقسام. الآن وقت وقوف روسيا صفًا واحدًا خلف قائدها بوتين. وياما اختبرت هوامش العالم مثل هذه الرطانة، في سوريا ولبنان الأسد، وفي عراق صدام حسين، وليبيا معمر القذافي، وإيران الجمهورية الإسلامية.
وها هو الجيش الروسي يزحف غربًا، فيحاصر مدن أوكرانيا ويُعمِل فيها الحديد والنار، كي تقف خلفه صفًا واحدًا، بعدما استأنس بوتين بما فعله بمدن سوريا التي تذكّرها الوزير الأوكراني واقفًا في العراء على حدود بلاده.
وها هي البوتينية الروسية تُرغم ألمانيا على تخصيص مئة مليار دولار للتسلُّح وتحديث جيشها، بعدما حرّمت على نفسها الإنفاق العسكري عقب مآسيها في حربين عالميتين. وها أوروبا تَعِد نفسها باستضافة ملايين الأوكرانيين الهاربين من الرعب والدمار البوتينيّين الزاحفين على بلدهم ومدنهم. فهل حان موعد أوروبا مع وداعها رخائها الاقتصادي واستقرارها السياسي؟ وهل الحرب هي كل التاريخ والجغرافيا والسياسة؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها