الجمعة 2017/08/25

آخر تحديث: 01:06 (بيروت)

حكومتا سعد الحريري

الجمعة 2017/08/25
حكومتا سعد الحريري
سعد الحريري باقٍ... باق (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

هو المأزق إياه يتكرر في عَودٍ على بِدء. الجميع أسرى مواقعهم ومصالحهم، ولا أحد يقبل بالتنازل قيد أُنملة، ولو كان البلد على المحكّ. بمقتضى مسلسل الأحداث الأخيرة على امتداد الشهرين المنصرمين على الأقل، بات من الثابت أن الحكومة الحريرية الحالية هي أكثر من حكومة... أعني أنها حكومتان في واحدة، وأنّ لكلّ منهما أجندتها ووسائلها وملائكتها الحارسة. أما الرئيس سعد الحريري فهو الأول فيها من دون شك بموجب موقعه، إلّا أنه على مستوى السلطان، الأول بين مُتساوين. وهذا ليس تفصيلاً جانبياً ولا افتئاتاً على الشخص أو على الموقع. صيغة الحُكم المُلتبسة هذه تأتي في طليعة فرادات النظام السياسي المُعتمد في جمهورية التوافقات الهجينة، والذي لا مثيل له منذ عهد "الأمير علّاقة" الذي حكم صور ونواحيها متمرّداً على الفاطميين، وانتهى مُعلّقاً حتى الموت على أسوارها.

في جمهوريتنا فقط يمكن لوزير أن يزور دمشق بصورة رسمية وبعلم من رئيس الحكومة، ويجري استقباله بالطبل والزمر ومنتهى التكريم والاحتضان، ويمكن لوزير آخر أن يُخوّن دمشق ودولتها ويقاطعها ويرميها بالحَرَم وينشر سنسفيلها بأقذع العبارات. هذا ولا تهتزّ ورقة توت. والأغرب أن هذا التنافر التناقضي الذي لا مراء فيه، لا يُفسد في الوّد (الحكومي) قضية، فتتواصل الجلسات ويواصل الوزراء دأبهم في تسجيل النقاط، كلُ في مرمى زميله قبل أن يتداعو إلى تناول "سناك" خفيف في المطعم المجاور. وهنا لا يمكن فهم دورة الحكم وآلياته إلا بالعودة إلى القاموس اللبناني الذي لم يُنشر أبداً، والمحفوظ في سجلٍ وهمي يتجوّل فقط على ألسُنة المسؤولين وفي تصريحاتهم وخُطبهم وأمزجتهم والكلمات التي يوجّهونها في المناسبات التي تعجبهم.

وسط هذه الطقوس الغرائبية تتهادى سفينة الحُكم بقدر مُستهجن من الكانيبالية السياسية التي أصبحت الشريعة الحاكمة أداء المتنازعين على الجبنة. هنا تبلغ "القادومية" نهايتها ويدخل الجميع مرحلة الزفت.. أعني الطرق المُعبّدة. مسار الأمور يخرج من سحابة العالم الافتراضي ويصير واقعاً وحقيقة ملموسة، فيتقدّم الأقوى ليفترس الأضعف (ويأكل جبنته) ويتنعّم من دون ملامة ولا حتى رفع حاجب. أمّا الكلام اللُعابي والمحاضرات اللزجة في الشرعية والدولة والقانون والوطنية وتطبيق الدستور... فلا يعود أكثر من موسيقى جنائزية مرافقة للمشهد.

وتتواصل الرحلة . الجيش يتمدد في الجرود والحكومة تتمدد إلى دمشق. دواعش المغاور يتراجعون أمام الجَرَب والقمل ويضطرون إلى فتح جبهة جديدة سلاحها دواء "البيرمثرين" ومعادلاته للحدّ من النهاش الذي يفترس جلودهم وأجسامهم، ودواعش الداخل يُصوِّبون على السلم الأهلي متذرّعين تارة بقفز حزب الله فوق السياج وكسره مزراب العين، وطوراً بإقبال الجيش على نوع اضطراري من التنسيق الموضعي الذي تفرضه وقائع الأرض مع الجيش السوري على المقلب الآخر للجرود.

العفن يتجلّى على مستويين. عفن الأجسام– القاذورات، وعفن السياسات القذرة. أجسام تتعفّن هناك بفعل رطوبة الكهوف وقذارات عدم الاغتسال، وأدمغة سياسية هنا ينهشها قمل المصالح الضيّقة وصئبان الأحقاد الرخيصة. وبين هذا وذاك يتراجع البلد إلى المربعات الأدنى تحت الصّفر مُستعيداً ملامح الجلجلة، كأنه لا ميشال عون في بعبدا ولا سعد الحريري في السراي.

وسط هذا النهش والحِكاك وتنتيف الجلد وتمزيقه إلى العظم، يتواصل دويّ المدافع والصواريخ تنهال فوق رؤوس سوداء مُحتشدة بالأحقاد والتوحش. والحكاك هنا ليس تفصيلاً هامشياً، إذ إنه يشكّل الجبهة الرابعة المفتوحة على أقوام الرؤوس السّود، إضافة إلى جبهات الجيش اللبناني من هنا والجيش السوري من هناك ومفاجآت مقاتلي حزب الله من كلّ الجهات. صحيح أن هذا كلّه يدعو إلى التفاؤل بقرب انهزام أدوات التوحُّش، لكن الدِّقة واجبة من باب أولى، إذ إن الاقتراب من النهاية لا يعني بلوغها بالفعل. بالتالي، ينبغي التنبّه إلى أن الخطر ما زال مُقيماً بين ظهرانينا. والأسوأ هو ما يجدر بنا توقّعه في ظلّ ما يعِد به الدواعش من توسيع تماسات المواجهة لتتجاوز الجرود البعيدة إلى الداخل الشعبي حيث "تنام" خلاياهم الإرهابية المفترضة.

في غمرة هذه التداخلات، يخرج من الكواليس السياسية والديبلوماسية كلام كثير عن نيّة ما بتوسيع صلاحيات القرار 1701 (الذي وضع المناطق الحدودية في الجنوب تحت حراسة القوّات الدولية) لتشمل مفاعيله الجرود الشرقية أيضاً، مع ترقيته ليصير تحت الفصل السابع (بذريعة الحماية من الإرهاب). ما يعني تحويل قوة السلام الدولية إلى قوة ردع. وهذا باب خِلاف لبناني جديد يُضاف إلى الأبواب الأخرى التي باتت أكثر من أن يمكن تعدادها. ومن سُخرية القدر أن ما يبعث على الطمأنينة هنا يتمثّل في واقع الخلاف الداخلي القائم، بحيث يستحيل على "حكومتَي البلد" أن تتوافقا على تغيير انتداب القوات الدولية لجعله تحت البند السابع. هكذا يبدو الإنقسام اللبناني القائم نوعاً من خشبة إنقاذ لما تبقّى.

الحقيقة أنه لم يسبق للمشهد المحلي الراهن أن كان أكثر وضوحاً مما هو اليوم. لكن، حتى هذا الوضوح غير المسبوق بقي عاجزاً عن إقناع مجاميع "عنزة.. ولو طارت" من المحلِّيين اللاهثين دائماً خلف طرائد تتحرك في مخيّلاتهم لا غير. لذا، من الطبيعي أن يستمرّ اهتزاز الوضع الداخلي وأن يتواصل رقصاً مُتفلِّتاً على الحافة. ودائماً من الميسور إنقاذ حكومة الحكومتين من أن تتحطّم على زفت الساحة. ذلك أن روّاد التهويل بالثُبور وعظائم الأمور، يغمضون أعينهم ويسدّون آذانهم عن كل ما لا يكون في مصلحتهم. لذا، هم لم يسمعوا صوت واشنطن الجهوري وهي تطلب من "جيش العشائر" المحسوب على المعارضة السورية، عدم قتال الجيش السوري (!) وهذا من علامات المرحلة. كذلك فهم لم يُشاهدوا عودة الحياة إلى طبيعتها بين سوريا والأردن من خلال قرار عبدالله الثاني فتح معبر نصِيب الحدودي مع سوريا، مع ما يعنيه ذلك مباشرة أو مداورة من حيث طيّ صفحة الازمات الميدانية التي كانت تُؤرق دمشق في محيطها المباشر وعلى حدودها مع الأردن، وفتح الكلام (وإن مُبكِّراً) عن إعادة إعمار سوريا، ما يُسيل لُعاب كثيرين من عمالقة الأعمال وتحديداً من اللبنانيين.

ولسوء حظ المراهنين على مراكمة الوهم، لا بد من الاعتراف بأن مناهضي الحراك النشيط والفظّ أحياناً الذي يمارسه حزب الله في سياق الأحداث، باتوا في وضعٍ صعب ومتعسِّر وبلا جدوى ولا مستقبل. فالدول التي اعتبروها دائماً صديقة لهم، لن تخوض حروبهم بالنيابة عنهم. وكل صراخهم الأجوف في وجه الهواء لن يثمر شيئاً، اللهم إلّا فضح مسلكهم الفظّ الذي لا يخدم غير استدامة الإنقسام اللبناني وتأصيله طائفياً ومذهبياً ومناطقياً لقاء لا شيء. وإذا صح الخبر المنسوب إلى وزير الزراعة غازي زعيتر عن استعداد سوريا لمدّ لبنان بـ500 ميغاواط إضافية من التيار الكهربائي وبأسعار أقل من سعر البواخر، تكون هذه مثابة الضربة القاضية، ليس للحكومة بل للمشوّشين عليها وعلى جسرها المتين مع حزب الله.

والمعنى أن سعد الحريري باقٍ... باق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب