الأربعاء 2017/07/19

آخر تحديث: 00:09 (بيروت)

دولة المنشار!

الأربعاء 2017/07/19
دولة المنشار!
لا شيء أكثر وضوحاً وتعقيداً مما هو حاصل اليوم (الوكالة الوطنية للاعلام)
increase حجم الخط decrease
بينما تتوزع الأنظار والاهتمامات بين جرود عرسال وما يُقال إنها مقبلة عليه من أحداث ستكون لها أصداء وترددات، وسلسلة الرّتب والرواتب التي تشغل جيوش الموظفين الذين توقفت رواتبهم عن النموّ منذ أكثر من عقدين من المرارة، تتواصل محاولات رئيس الحكومة سعد الحريري لتحقيق نوعه المفضّل من الفصل "الودّي" بين الجيش كمؤسسة محلية رسمية ليس لديها أجندات ولا طموحات إقليمية أو دولية، وحزب الله بما هو قوة عابرة للمفاهيم البلدية كما للحدود. 


وسط معركة الحريري الهادئة هذه، تشهد الساحة، ويا للغرابة، عملية "كبح له من داخل البيت"، ينفذها "صقور السنّية السياسية" مُعترضين بصراحة غير مسبوقة على ما يعتبرونه ذوبان الحريري في كأس العهد وتقديمه تنازلات يعترضون عليها باسم الشارع السنّي المتوتر، كما يقولون، من دون أن يُبالوا بأنهم، بأنشطتهم غير المدروسة هذه، إنما يقطعون بالمنشار فرع الشجرة الذي يجلسون عليه. كل هذا بينما عهد الرئيس ميشال عون يبدو مُتهالك الخُطى، يتكئ على ما تبقّى له من هيبة الرئاسة بعدما اتضح (بالقلم والورقة) أن الطبقة السياسية الكارهة له باتت أقوى من العهد ومن رئيسه.

لا شيء أكثر وضوحاً وتعقيداً مما هو حاصل اليوم. الرئيس بري يكرر مواويله عن السلسلة وحق الموظف بها والخوف منها على المالية العامة (كلّه في الآن نفسه)؛ يوعز لوزيره أن يُبشِّر بقرب إقرارها، ثم يرمي الـ "إلّا" الإشتراطية، بقوله "...إلا إذا أرادت الحكومة استعادتها"...، ويتابعه حليف كل الأوقات وليد بك جنبلاط بالعزف المناسب فيأخذ دور المسؤول الحريص ويرمي في وجه الموظفين لاءهُ الناهية للسلسلة لاعتباره أنها زيادات عشوائية تعرّض الاستقرار النقدي للخطر... كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا. ولو دققتَ لاكتشفتَ العجب العُجاب. فالدولة بكل من ما تُطعمه من رؤساء ووزراء ونوّاب ومديرين ومُستشارين وخُبراء، وبعد سنوات من الإنكباب على دراسة السلسلة وبحثها ومناقشتها، فالمذكورة ما تزال... حرفاً مُبهماً لا يعرفون كم تكلفتها ولا كيف سيؤمنون لها التمويل ولا من أين، تماماً كما يعرفون أنها حقٌّ للموظف وضرورة حيوية لأكثر من ثلاثة أرباع اللبنانيين(!).

هذا عن السلسلة. أما عن جرود عرسال فالسيد حسن نصرالله، وقد هزّ عصا ضيق الصدر من التسويف والمماطلة في قضية إعادة سوريي مخيمات الأعالي إلى ديارهم، أعلن بواقعية لافتة، المباشرة العملانية بمعركة الجرود، ليس من حيث انتشار قوّاته المتخصصة في الميدان، بل من خلال القصف التمهيدي الشديد للجرود من قبل الطيران الحربي السوري لتدمير ما يمكن من تحصينات وآليات المسلحين (الذين سُجّلت حالات تضعضُع وفرار في صفوفهم كما ذكرت بعض الوسائل الإعلامية). وتُشير المعطيات الجادة إلى أن العمليات على الأرض ستنطلق بين يوم وآخر بل بين ساعة وأخرى، تشنّها قوّات الحزب بالتضامن مع فصائل من مغاوير الفرقة الرابعة في الجيش السوري، وانطلاقاً من الأراضي السورية على وجه التحديد. وهذا ما يضع الجيش اللبناني نظرياً خارج المعركة، لتقتصر مهامه على منع المسلّحين من التسرّب إلى البلدات والأراضي اللبنانية. وهذا يعني باللغة العسكرية العمل على صدّ هؤلاء بالنار والاشتباك معهم... ما يوازي عملياً الدخول في المعركة. وهذا ما لا بدّ أن يُثير حفيظة قوى أساسية في البلد أشهرها القوات اللبنانية وبعض تيار المستقبل، ممن ينظرون إلى المسألة برمتها من زاوية أخرى مختلفة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تثقيل خطوات العهد المترنّحة أساساً في ظلّ تصريحات وطروحات رموزه التي تشي، ويا للغرابة، بأنه يعيش خارج جاذبية هذه الأحداث الضاغطة كلّها... كأنه في كوكب آخر.

الواقع أنه لا شيء حتى الآن يُنبئ بنجاح أيٍّ من التحرّكات المُشار إليها. فلا محاولات الحريري في تحقيق الفصل بين دولته ودولة الحزب، حققت مراده بعد؛ ولا العهد يتقبّل سكب بعض الماء في خمر موقفه المتشدد إلى جانب حزب الله؛ ولا السلسلة تحولّت إلى سيولة في الجيوب المتعطِّشة. وأبرز ما يُسجِّل هو أنّ البعض من بطانة بعبدا ذهب إلى حدّ قراءة كلمة رئيس الحكومة في دعم الجيش وقائده قبل أيام، على أنها موجّهة أيضاً في قسم منها لحزب الله ذاته، وهو المقبل على خوض معركة الجرود في ظل تفاهم أميركي ــ روسي على تصفية تنظيم داعش. وما يمكن أن يٌحسب لمصلحة الحريري في هذه المجريات هو بعض الآثار المتواضعة للإصرار الذي يُبديه على استقلالية الجيش عن "المقاومة"، والذي انعكس إيجاباً على شعبيته بعدما كانت بعض القوى المحسوبة عليه قد ألّبتها ضده لزعم توافقه "المبالغ فيه" مع الرئيس عون. ومن طرف لم يكن واضحاً كفاية في الأساس، ألقى هذا الحِراك المستجدّ بعض الضوء على فصلٍ مسكوتٍ عنه وغير معلن من الأجندات الحقيقية لحكومة سعد الحريري، والذي يتعارض مع أجندات العهد في موضوع الجيش والحزب على وجه التحديد. من هنا فالحديث الهامس في بعض الأوساط المستقبلية عن عواصف مقبلة ستهبّ على بحيرة الهدوء العونية- الحريرية، لم يعد مجرّد بروباغندا في غير محلِّها.

وهذا إن حصل، قد يستجرّ أحداثاً أخرى أكثر أهمية وخطورة ستؤثر على اللياقة البدنية- السياسية للثنائي الشيعي الذي ما زال يعيش أفضل أيامه. ذلك أنها ربما تكون الفرصة الذهبية التي ينتظرها رئيس المجلس النيابي للإلتفاف على "غريم الكيميا" الذي اضطر اضطراراً إلى مسالمته (وهو الذي لا يُسامح ولا ينسى). وقد يكون من المُغري للبعض تفعيل حلف الغاضبين على العهد والتزيين لأنفسهم استعادة مرحلة التضييق على الرئيس الأسبق الجنرال إميل لحّود، وتطبيقها على الرئيس عون لكي "ينبت العشب على درب بعبدا". وبالطبع فسوف لن ينبت العشب (لأسباب شتّى أقلّها... المواد الزراعية التي يجري رشّها بانتظام على جانبي الطريق للقضاء على الحشائش وإمكانية استخدامها لإخفاء عبوّات إرهاب محتملة).

الحلم هذا يبدو مستحيلاً من وجهة نظر عاقلة، لكنه يُدغدغ مخيّلة البعض من "دونكيشوتات" المرحلة، فيسحبه بعض الجادين من بين أيديهم ويرمون به بعيداً.. لكنه لا يسقط على الأرض إذ تُسارع رؤوسٌ كبيرة من خصوم العهد إلى تلقُّفه، وتستخدمه سلاحاً إضافياً للضغط على سيد بعبدا ودولته، على نيّة دفعه إلى حافة السطح بحيث يضطرّ إلى مهادنتها، فتعود هذه القوى لتواصل رحلتها المنشارية في خشب الناس والدولة والمؤسسات، كما دأبها منذ "انتهاء الحرب" المزعوم.

السؤال المُحرج هنا لا يغرق في هذه التفاصيل. فأيّ عاقل يصدّق أن هذه هي الطريقة المناسبة لتعطيل حراكية ميشال عون؟!

السؤال يتصل بما يمكن احتماله بناء على تلك التفاصيل. فماذا لو جرى استفراد العهد من قِبل أخصامه، وما أكثرهم، بينما يكون حليفه المُهاب منهمكاً في مواجهة حرب عالمية جديدة تُشنُّ عليه بموجب اتفاقات يُقال أنها تمّت تحت الطاولة بين الروسي والأميركي...؟

هنا... يُدرك شهرزاد الصباح.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب