الأحد 2016/07/24

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

الأولوية لوقف الجنون

الأحد 2016/07/24
الأولوية لوقف الجنون
هناك من يعمل لإذكاء الصراع وازدياد خطورة الإرهاب "الإسلامي"
increase حجم الخط decrease

يخرج اللاجئ الأفغاني، من منزل العائلة الألمانية التي تحتضنه، ويهاجم بالفأس ركاب قطار في جنوب ألمانيا. يصيب العشرات ممن وضعهم القدر في طريقه. وبعد تمكن الشرطة من قتله، تبقى في الأذهان صرخته: سنصل إلى الكفار أينما كانوا!

يتكرر الإجرام، في مشهدية غير مسبوقة، شاحنة نيس تطارد الناس مسافة كيلومترين، فتتطاير الجثث، ويطحن القاتل عظام أطفال ورجال ونساء دون أن يرف له جفن.

وبعد أيام، استطاع الألماني- الإيراني ديفيد سنبولي، الذي تردد أنه يعاني مشاكل نفسية وأنه "مهووس" بالسفاحين أمثال النروجي اليميني بريفيك، فرض ليلة رعب على ألمانيا إثر ارتكابه جريمة ميونيخ المروعة.

في المقابل، تنتشر صور اشلاء الأطفال وقد مزقت براميل الطاغية أجسادهم الضعيفة. ويحضر الفيديو المرعب الذي يسجل عملية ذبح الفتى عبدالله عيسى في حلب. ويحجز مرتكبوه القتلة مقاعد لهم في الصفوف الأمامية.

لم يعد أي مكان في العالم آمنا من مجرمين يستهدفون حياة الأبرياء. موجة جنون تجتاح جهات العالم الأربع. وينجح الإجرام المنفلت في بث الخوف والرعب، لأنه بلغ مراده في تكريس إستهداف حياة الناس العاديين، أينما كان، وبذريعة الجهاد، مستبيحا كل شيء، محولاً كل الدنيا أرض جهاد.

لكن، لا تذهب بعيداً، فأنت أيها القاريء، جرب أن تشاهد أحد الأفلام الهوليودية. ستطالعك أفلام عنف منفلت تعتمد الإدهاش في الدمار والقتل. تجددٌ في عمليات التفجير، وتلذذٌ في القتل بالرصاص، وإبتكارٌ في أساليب دهس الناس، مع جهد استثنائي لتحسين صورة القاتل، وحثّ المشاهد على التعاطف معه، أو اعتماد الكوميديا السوداء التي تخفف من وطأة جرائم مقززة وتعود المشاهدين على تقبلها، وجعلها جزءاً من ثقافة عالم  بكامله.

إنه عالم الدهشة، والهدف دائماً مزيد من الإدهاش. فهناك من يسعى (وهذا أمر إيجابي جداً)، إلى إدهاش الناس، من خلال إبتكارات تتحقق في كل مجالات التكنولوجيا وعالم الإتصالات على وجه الخصوص. لكن، هناك من يسعى إلى هذا الإدهاش من خلال إرتكاب أكثر الجرائم استعراضاً وبشاعة، وبشكل إحترافي لتكريس صورة التوحش، التي بكل أسى باتت تجذب جمهوراً متزايداً، هو أصلا ضحية مهملة. ما يسهل أمامه سبل الإنتقال إلى خانة "داعش" وأمثالها، فيتحول المأزومون المرتكبون، في كثير من الأحيان، إلى أصحاب قضايا. ومجرم نيس هو المثال البارز. فالشخص الذي عُرف عنه أنه كان عنيفاً، عُرف عنه أيضاً أنه لم يكن متعصباً في تدينه، لكن كل ما ارتكبه "داعش" من جرائم كانت صور الجثث- الضحايا، مخزنة على جهاز الكومبيوتر الشخصي العائد له.

في كل هذه اللوحة القاتمة، الخشية كبيرة من تكريس الخلط بين فكر إسلامي متطرف، موجود وأساساً، وبين الإسلام كديانة، ودون أن ننسى للحظة أن المسلمين في الأساس، هم أبرز ضحايا التطرف والمتطرفين. وهذا الأمر يطرح على طاولة البحث والتقصي مهمة عاجلة، هي السعي للتفريق بين تطرف يتم إغراق الدين الإسلامي به، وكون الإسلام هو الديانة التي يعتنقها كل هؤلاء الناس. وهنا، نفتح مزدوجين لإثارة أسئلة تطرح نفسها، أبرزها، كيفية مواجهة زرع "مفاهيم" تُكفّر المنفتح الوسطي المنخرط في حوار مع الآخر، والمساهم في تعميق قيم الديموقراطية والتعددية.. إلى كيفية رفع التحدي بضرورة عزل المتطرفين، لأنه في ذلك حماية للناس وتحصينها. وأولاً وأخيراً نجاح المراهنة على وجود إسلام معتدل ومنفتح ويقبل الآخر.

منذ 11 أيلول دخل العالم في طور جديد، وكل ما تلا تلك الجريمة، أدى إلى اتساع رقعة الإرهاب وتعاظمه، رغم كل ما يعُلن ويُمارس عن محاربته،  تحول هذا المنحى إلى محور الكون الأبرز، لكن الثابت وفق النتائج المحققة، أن التعاطي الدولي، الذي كان له استثماره في الإرهاب وسعى لتوظيفه، ليس بحجم الخطر الداهم. ولعل ما شهده العالم طيلة العام الأول من إعلان التحالف الدولي حربه على "داعش"، من توسع وتمدد للدولة الإسلامية في العراق وسوريا وحتى إلى ليبيا بعد سيناء، ليس إلا الدليل القاطع على تعاط استنسابي مع الخطر الكبير. هذا فضلاً عن أن معظم التدابير المتخذة طالت أولاً المدنيين الأبرياء، بينما يسود شعور أن مخططي الإجرام ومنفذيه يتحركون بهامش كبير من الحرية. فهذا قاتل "أورلاندو" راح يتلذذ ثلاث ساعات في قتل الناس قبل التمكن منه.

من ذلك، يبرز أمام المتابع، أن تدابير كثيرة تم اللجوء إليها، لم تفعل أكثر من إذكاء حدة الصراع الديني، والذهاب نحو قسمة العالم إلى "فسطاطين"، فازدادت ترسانة الأفكار الشرسة، واتسع اليأس من إمكانية حدوث أي تغيير لمصلحة الناس التي ازداد عندها فقدان الأمل بالمستقبل. ما يطرح التساؤل عن حقيقة أهداف ومرامي دوائر عليا في مراكز القرار تخطط لإذكاء حدة الصراع وإلى ازدياد خطورة الإرهاب "الإسلامي"، حتى ولو أدى ذلك إلى تعميم ظاهرة المجتمع الذي يسوده الخوف، والذي يمكن أن يؤدي إلى وصول شخصيات مقلقة مثيرة للجدل إلى السلطة، من أمثال ترامب في أميركا ولوبن في فرنسا. لأنه في عالم يتلظى بالإرهاب من السهل أن تتقدم وتسيطر المشاعر الغاضبة من قبل أغلبية غير قادرة على التفريق بين معتدل ومتطرف. وربما كانت غير معنية أصلا بذلك، إذ لا يجوز الإستهانة بسلوك الناس وهم تحت تأثير الخوف والترهيب.

بالتأكيد، هناك جهات كبرى راهنت على الإفادة من الإرهاب المنفلت، وسعت لتوظيفه، وربما سعت لتغليب الصراع الديني على أوجه الصراعات الأخرى المتعددة: إقتصادية، طبقية وإتنية. وذلك من خلال زيادة الظلم اللاحق بالمسلمين، ومن خلال دعم أنظمة ظالمة شمولية قائمة على التمييز وإطالة عمرها.

بالأمس حذر مانويل فالس رئيس وزراء فرنسا، من أن جريمة نيس قد لا تكون الأخيرة. ما يعني أن الحرب لإنهاء "داعش" ومثيلاته أولوية. لكن فيما يتعرض ملايين من المسلمين في غير مكان لمزيد من القهر والتهميش والتضييق عليهم، فإن ألف باء المواجهة الضرورية والحقيقية المكملة للمواجهة العسكرية والأمنية، تكمن في معالجة الأسباب والمناخات التي تعمل على ازدهار الإرهاب من ظلم وفقر وجور اجتماعي ومناهج تربوية بائسة، إلى غياب المرجعية الفقهية القوية التي تتجرأ على إبراز الوجه السمح في الدين الاسلامي، بل في كل الأديان، بما سيشكل الأساس الجدي لخلق الإطار الذي يبرز الفارق بين الغالبية العظمى من الناس والمتطرفين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب