الجمعة 2015/07/31

آخر تحديث: 14:51 (بيروت)

قسمة الكيك

الجمعة 2015/07/31
قسمة الكيك
increase حجم الخط decrease

قُبلة اهتمام المفكّرين اللغويين اليوم تتوجه نحو كلمة جديدة يحاولون نحتِها من بلاطات لُغةِ الضاد بحيث تُعبِّر عن الوضع والحال والمشهد الراهن الذي يحكم بيروت في عصر النفايات الذي لم تقترب نهايته بعد...

الحكاية لها بدايتان، الأولى يابانية والثانية كسروانية.

في العام 1950 وفي قرية على خليج ميناماتا في جنوب غرب اليابان، ظهرت على الحيوانات من قطط وكلاب، أعراض غريبة وتصرفات عدوانية ثم راحت تنفق. بعد ذلك لحقت بها الطيور التي كانت تسقط عاجزة عن مواصلة الطيران ثم تنفق. ولم تلبث أن حلّت اللعنة على البشر من أهالي تلك القرية، فراحوا يترنّحون في الطرقات (مثل الزومبي) ثم يقضون نحبهم بالعشرات يومياً. التحقيقات العاجلة التي سارعت إليها السلطات اليابانية أظهرت أن السبب هو تلوّث منطقة الشاطئ وأسماكها بـمادة "ميثيل الزئبق" السامة، واتي كان مصدرها مصنع بلاستيك قريب يرمي فضلاته الصناعية في البحر.

يومها لَمَس االيابانيون والعالم (المتحضِّر) خطورة تلويث الطبيعة وانعكاس ذلك على الحياة.

في لبنان، وفي  أواخر ثمانينات القرن الماضي، حصل أمر مشابه، إنما على الطريقة اللبنانية. فقد ظهرت (فجأة) براميل مشبوهة أشاعت الرُّعب وانتشرت من الحوض الخامس في مرفأ بيروت صعوداً حتى أعالي كسروان. التحقيقات الدولية تحت علم الأمم المتحدة يومها كشفت في تقرير خاص أن البراميل "المجهولة" تحتوي بالفعل على نفايات صناعية خطيرة مصدرها إيطاليا. وجاء في التقرير أنها دخلت عُنوة إلى الأراضي اللبنانية من خلال ما أسمته "قوى الأمر الواقع"، ما يعني تبرِئة الحكومة اللبنانية يومها من المسؤولية. وبعد سنوات (1992) رأى المدعي العام اللبناني آنذاك أنه "لا يمكن محاكمة المتورطين لأن جرائمهم هي أعمال حرب يشملها قانون العفو". وهكذا "عفا الله عمّا مضى".

ماذا يجري اليوم؟

ليست هي ساعة الحشر لكنها قريبة ولا شك. "ستّ الدُّنيا" تسدّ أنفها وتختنق بالنفايات الوطنية. "العروس" التي طالما تغاوت بجمالها، حولّتها لعنة الأطماع والجشع، إلى مزبلة وطنية. "دُرّة الشرق" انقلبت إلى مدينة سُفلِيَّة نتِنة. وجوه حكومة المصلحة الوطنية شديدة التجهُّم، لكن الأزمة أكبر من اللاعبين. القاذورات تُكشِّرُ عن أنيابها المسمومة وقد رابطت على الطرق والمفارق وفي الساحات والزواريب، كأنها جيوش احتلال تُمسك بمفاصل المدينة. أما العدوّ الغاشم هذه المرّة فهو الذي صنعناه يأيدينا وحناجرنا وأصواتنا، وهو مَن نُضحّي بأولادنا من أجله، وهو يُضحّي بنا وبالوطن إكراماً لحساباته المصرفية. وهو أسقط علينا كل هذا القرف العظيم لمجرّد أن شريكه المضارب لم يوافق على رفع حصته من "كيك النفايات". بهذا التصرّف الفجّ وضع "بحصةً" كبيرة ومُسنّنة لأعتى وأخطر "قوى الأمر الواقع" خلال الحرب.

نفايات الثمانينات التي جاءت بها "الميليشيات" هددت مناطق واسعة، ذكرت الصحف منها: ذوق مصبح، شننعير، وادي حالات، مكب النفايات في برج حمود ومرفأ بيروت. وكذلك مياه ينابيع كثيرة أشهرها: ينابيع منطقتَيّ صنين وعيون السيمان عموماً ولا سيما : نبع اللبن، أفقا، باكيش، الوادي، البردوني، جوز النمل، عيناتا وجعيتا.

أما نفايات اليوم فهي لا تكاد تعني إلا بيروت وضاحيتيها والقليل من الجبل. المساحة أقل لكن الوضع ليس أهوَن. فالعاصمة منكوبة، وبقية المناطق تبدو مرحومة قياساً. ليس هذا لضآلة حجم النفايات فيها مُقارنةً بما تنفثه العاصمة، بل لأن هذه المناطق لا يصلها من الاهتمام الرسمي سوى الكلام المناسباتي عما يسمّونه "الإنماء المتوازن". والاستنتاج واضح وجارح: سلامة أيّ منطقة ترتبط بعدم اهتمام الحكومة بها. وهذه من علامات آخر النظام.

تبقى الحلول المقترحة اليوم وهي شتّى، وكلّها لا تحلّ شيئاً؛ من خطة النائب محمد قباّني الخنفشارية المُخجِلَة، إلى خُطة بلدية بيروت الأكثر خنفشارية. واحدةٌ تُهيب بناس المناطق أن يستقبلوا نفايات العاصمة بذريعة أن العاصمة تستقبل أولادهم في مدارسها ومستشفياتها (!)، والثانية، خطة البلدية، تقتضي سحب بعض الزبالة تحت جنح الظلام لرميها في "أماكن سرية"... لا تلبث أن تنكشف. كأن الممسكين بالمسؤولية باتوا بلا مُخيَّلة. لكن الخطر الأساسي يقع خارج هذه التفاصيل ويُختصر بمشهدين. الأول إعلان الوزير درباس بأن الذين تصدّوا لموكبه وشتموه وأهانوه ورموه بالزبالة، لم يكونوا أكثر من 15 شخصاً... ثم تبيّن أنهم من ناشطي حملة "طلعت ريحتكم" التي يُعدّ أعضاؤها بالعشرات، لا بالمئات ولا بأكثر. أما المشهد الثاني فيتمثّل بامتلاء الساحات بمئات الآلوف من المتظاهرين المتحمسين لعناوين موبوءة بالطائفية والمذهبية، وهم على أتمّ الاستعداد لبذل العضلات والدم والروح في مغامرات حرق وتحطيم وقتال كل من يظنّونه خصماً للشخص الذي يناصرونه.

هنا مكمن الخطر الحقيقي شعب لا يُؤملُ منه أكثر مما هو حاصل اليوم... يتحمّس لسرطان الطوائفية ويخدمه بكل قواه، بينما لا يهتمّ بالتصدّي لسرطانات النفايات والمزابل التي تحاصره في البيت والشارع والحي.

لهذا فالوضع ميؤوس منه، ولا حلول حقيقية في الأفق. وحتى قوى الأمر الواقع التي سامتنا الذّل والهوان خلال الحرب، باتت اليوم حليقة وأنيقة، وهي تساهرنا ليلياً في نشرات الأخبار المسائية، وقد تابت والحمد لله وخَزَتْ الشيطان وصارت هي الدولة التي تحكم البلد. لذا بات لزاماً التوجّه بالاعتذار من رئيس الحكومة ووزير البيئة لأهما الأكثر مظلومية. فهما يتلقيان أقذع الانتقادات، بينما القرار ليس عندهما بل عند الدولة... التي هي مختلف مُكوّنات القوى السياسية بما فيها من شخصيات "وطنية" وصمّامات أمان وزعماء ومسؤولين، وتحت تصرّفهم أحزاب وتيارات وحركات وتجمّعات... هؤلاء جميعاً هم المسؤول عن العصر الزبالي البيروتي. اما الرئيس والوزير فهما في أحسن الأحوال مثل ملكة بريطانيا التي تملك ولا تحكم.

وكل ما هو حاصل يقع خارج يديهما، ومن المستحيل على أيٍّ منهما أن يمنع أو أن يقمع أو أن... يستقيل.

ولا حلّ إلا بالاتفاق على قسمة الكيك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب