الأربعاء 2015/07/29

آخر تحديث: 21:06 (بيروت)

"المكاري"الفرنسي في طهران

الأربعاء 2015/07/29
increase حجم الخط decrease

لم تخيب طهران آمال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، واستقلبت وزير خارجيته بحفاوة قد تكون بالغة على رغم الحملة الرافضة لهذه الزيارة التي اطلقتها بعض اطراف التيار المحافظ متهمة فابيوس بضلوعه في تصدير مشتقات دماء ملوثة بفيروس فقدان المناعة المكتسبة الى ايران ثمانينيات القرن الماضي.

فابيوس عقد سلسلة من اللقاءات السياسية والاقتصادية بمروحة واسعة وعلى مختلف مجالات التعاون، لم تقتصر على نظيره الايراني محمد جواد ظريف بل شملت الرئيس حسن روحاني الذي تسلم دعوة من نظيره الفرنسي لزيارة رسمية الى فرنسا في نوفمبر المقبل. اضافة الى لقائه المفصلي مع وزير النفط بيجن نامدار زنكنه وحضور ملف شركة توتال على طاولة البحث بينهما واستعادة لمواقف هذه الشركة التاريخية التي رفضت الالتزام بقانون داماتو الاميركي واستمرت بالعمل في ايران منذ عشرين سنة.

علاقة الاحترام التي شدد عليها فابيوس بين فرنسا وايران تشكل محاولة فرنسية لتجاوز مرحلة التشدد التي مارستها باريس خلال المفاوضات النووية والتي ساهمت في ايجاد موقف معاد لها في طهران. الا ان فابيوس اعتبر هذا التشدد "من اجل الوصول الى اتفاق متين ونظيف" يمكن الاطمئنان الى استمراره وعدم خرقه.

الاندفاعة الفرنسية نحو ايران، في الاقتصاد والسياسية، عبر عنها هولاند يوم الاثنين في حفل عشاء استضافه قصر الاليزيه، عندما شدد على الدور الذي يجب ان تلعبه ايران في اقامة السلام في الشرقين الاوسط والادنى، مطالبا نظيره الايراني بتسهيل التوصل الى تسويات لازمات خطيرة تدمي المنطقة خصوصا سوريا.

الحذر الفرنسي من الموقف الايراني على خلفية المواقف التي اعلنت على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية من عمر الازمة النووية كان السبب في الشكوك التي ساورت الوزير الفرنسي حول ردة الفعل الايرانية عند الاعلان عن نيته زيارة ايران بعد توقيع التفاهم النووي في الرابع عشر من شهر تموز يوليو، وعبر عنها بالقول انه يأمل ان لا تحرم فرنسا من السوق الاقتصادية الايرانية الواعدة بسبب موافقها اثناء المسار الطويل للمفاوضات النووية.

ولا شك ان الطرف الايراني ادرك امكانية اللعب على المخاوف الفرنسية – الاقتصادية والسياسية الباحثة عن دور في الملفات الاقليمية- لذلك لم يسمح لاي مؤثرات ان تعكر على الضيف الفرنسي زيارته، وان يساعده على فتح صفحة جديدة تضمن لفرنسا حصة في السوق الايرانية  امام المنافسة المتوقعة من الشركات الاميركية والالمانية حسب ما عبر عنه القنصل الفرنسي في طهران بعيد انطلاق المفاوضات في احدى جلساته الخاصة، واتهم واشنطن بانها تحاول الاستئثار بالسوق الايرانية على حساب شركائها الاوروبيين.

وكانت خطوة الرئيس الفرنسي بالمسارعة للاتصال بنظيره الايراني حسن روحاني يوم الاثنين الماضي قد كشفت بوضوح الهواجس الفرنسية المتعلقة بفرص الاستثمار الواعدة في السوق الايرانية التي تتثاءب بانتظار زوال ليل العقوبات عليها. وكشفت ايضا مدى الاستعداد الفرنسي لتقديم ما يملك من اوراق اقليمية لارضاء قادة طهران وتخصيص حصة لفرنسا في كعكة المشاريع والاستثمارات.

تأكيد هولاند وفابيوس ان المرحلة المقبلة من العلاقة بين باريس وطهران ستفتح بابا للحوار حول المسائل الاقليمية، يشكل اعترافا واضحا ومباشرا بتأثير الدور الايراني اقليميا، وبالتالي فان الجانب الفرنسي سيكون امام امتحان المصداقية لكل الضمانات التي قدمها لبعض حلفائه في المنطقة، خاصة اسرائيل، بالتصدي للطموحات الايرانية وما تشكله من تهديد لاستقرار المنطقة وتوازناتها.

الزيارة الفرنسية الى ايران ستفتح امام الدبلوماسية الفرنسية مسارا جديدا على مستوى الازمات الاقليمية، خاصة بعد تبلور ملامح مرحلة التفاهمات مع طهران وحجم الهامش الايراني الذي سيمنح لباريس للعب دور في هذه الملفات.

التوقعات الفرنسية بدور فاعل في المرحلة المقبلة ومعرفتها بسقف المطالب الدولية، والتي عبر عنها هولاند، يؤكد بان الموضوع النووي لم يكن فقط المطروح على طاولة التفاوض، ساعد هولاند على رسم مسار الواجبات التي يجب ان تضطلع بها طهران في المرحلة المقبلة، اضافة الى ما يطلبه من ايران، ، عندما قال انه "يتوجب على ايران ان تكون بلدا يقدم حلولا ومن بين الحلول التي يجب ايجادها هناك المسألة اللبنانية ولكن ايضا سوريا واليمن والبحرين". موضحا انه سيزور لبنان "من دون شك خلال الاشهر المقبلة" ليبث الامل بان "انتخابات رئاسية يمكن ان تحصل اخيرا" في هذا البلد.



الحالة التي يمر بها الساسة الفرنسيون في هذه المرحلة، اعاد الى ذاكرتي ما كانت تحكيه لي جدتي عن "المكاري" الذي كان يحل على القرى ويطرح من "الخرج" كل ما يحتاج له المنتظرون، او يقدم لهم ما سبق ان أوصوه بشرائه من المدينة.

هذه الظاهرة عرفتها بلاد الشام حتى بدايات القرن العشرين، وكان يطلق عليه في لبنان وسوريا اسم "المكاري" وفي فلسطين والاردن اسم "الدواش".

و"المكاري" الفرنسي اتقن حرفته في العقد الاخير، ولم يكتف بان يخرج من "خرجه" ما قد تسأل عنه من مواقف، بل وصل فيه الامر الى ان يعرض ما في "خرج" غيره من بضاعة قد يرغب فيها الطرف المقابل، من دون ان يعود الى صاحبها الاصلي او حتى استشارته في بيعها او عدمه.

في المصطلحات القانونية، او الشرعية، تسمى عملية بيع ما يملكه الغير من دون استئذانه على فرض الرضا منه باسم "البيع الفضولي" على غرار العقد الفضولي، والادارة الفرنسية في تعاملها مع الملفات الاقليمية تعاملت بهذا الاسلوب، فهي حاولت وتحاول بيع مواقف وبضاعة لا تملك فيها قرارا او حتى تتفرد في التعامل معها.

وما يدلل على الفضول الفرنسي واستعداده للعب دور "المكاري" وان يفرغ ما في "خرجه" لعل شيئا يقع في عين المشتري فيلتقطه ويقبل به بعد مساومة على ثمنه، ما حدث في عام مطلع عام 2007 والاقتراحات التي قدمها لحل الازمة اللبنانية.

اذكر انني كنت على موعد مع احد المقربين من الخارجية الايرانية في شهر آذار/ مارس من عام 2007، كنا نتسامر في حديقة منزله ، وفجأة التفت علي وقال، انت لبناني، فما هو تقديرك ورأيك باعتماد المثالثة في توزيع السلطات في لبنان بدل المناصفة. فكان ردي وكأن صاعقة ضربتني، هذا يؤدي الى ضرب الصيغة اللبنانية ويفتح بابا لحرب اهلية من جديد! قال ضاحكاً: هدىء من روعك، ليست ايران صاحبة هذا الاقتراح، لكننا استضفنا الاسبوع الفائت مبعوثا من قبل الرئيس الفرنسي جاك شيراك وقدم لنا هذا المقترح كمدخل لحل الازمة اللبنانية، وكان الرد اننا لا بد ان نستشير الحلفاء في لبنان وسوريا وقبل الرد النهائي.

بعدها، في اليوم التالي، اتصلت ببيروت وابلغت الوالد " رحمه الله" بما يدور في كواليس الاتصالات الفرنسية الايرانية حول مستقبل الازمة اللبنانية، الذي بدوره رفع الصوت امام من يعنيهم الامر.

المكاري الفرنسي عرض على الايراني تسليمه لبنان او توريط الشيعة فيه، والاقتراح جاء من الرئيس شيراك الذي اعتبر اغتيال الرئيس رفيق الحريري قضية شخصية ووظف الادارة الفرنسية بكامل قدراتها من اجل محاسبة القتلة الذين حصرهم في النظام السوري وحزب الله اللبناني.

العرض الفرنسي لبيع حلفائه اللبنانيين في قوى 14 اذار لم يتوقف بعد خروج شيراك من الرئاسة، بل استمر ايضا في عهد خلفه نيكولا ساركوزي ووزير خارجيته برنار كوشنير اليساري، عندما جمع القوى اللبنانية المختلفة بمشاركة حزب الله في لقاء عقد في الضاحية الباريسية "سان كلو" في الرابع عشر من تموز /يوليو، وحاول ايضا في اجتماع خاص مع بعض اقطاب الرابع عشر من اذار تسويق عرضه في "المثالثة"، وان موافقتهم على العرض ستسهل مهمة اقناع حزب الله والداعمين له في طهران باعتماد هذا المبدأ للحل.

اليوم، يقف "المكاري" الفرنسي على ابواب طهران، لا يملك الكثير ليغري الشاري الايراني بما يعرضه من بضاعة، فالخيارات الايرانية باتت اوسع واكثر جدية، وهو لا يملك الا ان يسأل الايرانيين، "ما الذي ترغبون فيه مما في – خرجي – من بضاعة، او اي بضاعة تريدون ان أبيعها لكم مقابل ان احصل على حصة في السوق الاقتصادي والسياسي المقبل؟"

والخوف هنا، ان يقوم الفرنسي ببيع الايراني كل ما قام بتجميعه من مواقف سياسية في العقد الاخير، خاصة تلك التي قبض ثمنها في السنتين الاخيرتين والمتزامنة مع انطلاق المفاوضات النووية بين ايران ومجموعة الدول الست.

واذا ما كانت الدول الاقليمية قادرة على محاسبة الفرنسي على فعله المتوافق مع عمله كـ "مكاري" سياسي، فان الخوف يبقى على القوى اللبنانية التي مازالت تثق بان هذا المكاري لن يخرجها من "خرجه" ويعرضها للبيع لتكون تحت وصاية خصومها السياسيين، وهو سيفعل. 



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها