الخميس 2014/08/21

آخر تحديث: 00:39 (بيروت)

صهيل الذاكرة السورية في ذكرى مجزرة الغوطة

الخميس 2014/08/21
increase حجم الخط decrease
من يُعاصر مجزرةً لم تنتهِ تُربكه كتابة ذكراها، كل ثقة بما يكتبُ عنها لا تخلو من التقصير في مقتضى حالها. يدركه الحذر، في الجُمل، من كلماته، حالما يضع سؤالَه الأول: بأي كلماتٍ أكتب نصًا لم تتصور مخيلتي مضمونَه إلا على سبيل الإفراط في التشاؤم والإمعان في تصور همجية غريبة مستبعدة؟. الخجل، في الذكرى، من ذاكرتنا، يَشعُر به حالما يدركه السؤال الثاني: بأي كلماتٍ أكتب نصًا في ذكرى رحيل الآلاف، والمئات منهم أطفالاً نُوِّموا إلى الأبد تنويمًا كيماويًا؟ويشعر بالخجل، أمام المعرفة، من ضحالة معرفتنا، وضعف إدراكنا أن المجزرة كانت كامنةً بيننا قبل الثورة، ولكن لم نَرها. وأن القاتلَ ينظر إلينا كائنات هلاميّة يملأ بهم جداول إحصاءاتٍ مزورة،ويستطيع، بُعيد أي لحظة يمكن أن تحمل طابع اليقظة تحويلنا إلى أرقامٍ تُملأ بها الجداول في مؤسسات توثيق الانتهاكات ومنظمات حقوق الإنسان.ولكن للموتى القدرة على القيامة، والإقامة، وترجيع صدى صوتٍ قديمٍ أطلقوه. هم من استيقظ من الغفوة فخُيِّبَ أملُهم في الصحوة، لاحقتهم الاشتراكية البعثية وهماً في حياتهم،ويقيناً في تَشارُك السُمّ في هوائهم، وتَشارُك المثوى الأخير في مماتهم، وتَشارُك شاهدة القبر الجماعي الذي يَكبُر. وللوهم ألف طريقة للخداع ولكن هذا اليقين يَجُّبُ ما قبله. لم يسمح لهم واقع الاستبداد أن يقرأوا المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (لكل فرد الحق في الحياة والحرية والسلامة الشخصية). لكن السليقة أسعفتهم إلى التشبع بها بعد حين. فقدواأطفالهم،وفقدوا السلامة والحياةَ بحثًا عن الحرية والنضال من أجلها. قتلهم سلاح "التوازن الاستراتيجي" الذي، "إن وجد، فهو سلاح يقف بوجه النووي الإسرائيلي فقط"!..لكن التاريخ، غالباً، لا يطيل الانتظار ليقول ما ينبغي أن يقول، ومن يَقتلُ في غزة والضفة يشبه من يَقتلُ في سورية منذ سنين. وسيكون التاريخُ شاهدًا على ماضٍ لن يعود، وبين الحكايات الديماغوجية والحيوَات الواقعية عِبرٌ تعيش طويلًا. فلنا أن نقول في أطفال الغوطة ما قاله درويش في أطفال كفر قاسم:

"شرف الطفولة أنها

خطرٌ على أمن القبيلة

أهنئ الجلاد منتصراً على عينٍ كحيلة

كي يستعير كساءه الشتوي من شعر الجديلة

مرحى لفاتح قرية!.. مرحى لسفاح الطفولة!.."

وتبقى اللغة والبلاغة اليوم لا تطابق ما يقتضي الحدث، ولكن كم توطَّن من معنى خذلته اللغة، وكم من أخبار المجازر قطّعت مواضيع الفكر الإنساني توضيحًا كما قطّع الزملكي المُجهَدُ بَصلةً، لا يملك غيرها دواء، على أنوف أحبَّائه علَّهم ينجون. ولكن، منذ أحداث "الجَمل" و"صفين" و"النهروان" حتى اليوم،ظلَّ أكثرنا لا يعقلون. ماذا تنفع الذاكرة أمام الشغف برقصة الموت؟وبماذا تنفع الذاكرة إن كان عليها أن تَهِبَ الحزنَ مادَّتَه وتزوِّده بمسببات البقاء؟ الأمل الحقيقي، في يوم الذكرى، خفقان قلب أمٍ مكلومةٍ ولكنها قادرةٌ على الحب أكثر، تشرح للعالمِ سرَّ الفرحِ الذابلِ في عينَي طفلةٍ سوريَّة تسألُ إن كانت على قيد الحياة. ربما هذا الحب يوقظ ما تبقى من ضميرٍ إنساني في العالم؛ ولا تسمح الإنسانية للأحداث الهمجية أن تتكرر.
قال الأمين العام الحالي للأمم المتحدة في ذكرى الإبادة الجماعية في راوندا: " الناجون من أعمال الإبادة ‏في رواندا دفعوا بنا إلى مواجهة الحقيقة المُرّة التي مفادها أنّ تلك المأساة كان بالإمكان ‏تفاديها. ولذا، فإنّ السبيل الوحيد لإحياء ذكرى من لقوا حتفهم في رواندا قبل سبعة عشر عامًا هو ‏ضمان ألا تتكرّر هذه الأحداث أبدًا.‏"وهذا صحيح، وقلوب السوريين اليوم ترنو إلى الإنسانية بأملٍ ينبع من فطرتهم المحبَّة للسلام وللحياة، وتقول للإنسان أينما كان: السبيل الوحيد لإحياء ذكرى من لقوا حتفهم في الغوطة قبل عام،وفي راوندا قبل سبعة عشر عامًا، هو ضمان ألا تتكرر هذه الأحداث في أي بقعة من العالم أبدًا. وبإحياء ذكراهم تصهل ذاكرتُنا كحصانٍ أصيل: نُحْيي حبَنا الفطري للحياة، واحترامنا الآخر، وتمسكنا بوطننا وبروح التسامح فيه، نُحْيي مبادئنا الأولى الأصيلة التي تقوم على نبذ الإجرام والتطرف أيًا كان فاعله ومهما كان سلاحه.ونُحْيي حُلمَنا وحقَنا المشروع في العيش في سورية حرة موحدة آمنة تحتضن جميع أبنائها. نروي الوردة الثاكلة وننتظر مخاض طفل جديد وولادة أمل جديد....

increase حجم الخط decrease