الخميس 2014/10/30

آخر تحديث: 22:49 (بيروت)

"النهضة" تنقذ ديموقراطية "الربيع"

الخميس 2014/10/30
increase حجم الخط decrease

بين انتخابات الجزائر 1991، عشية سقوط البلد في هاوية حرب أهلية طاحنة أعقبت إلغاء فوز "الجبهة الإسلاميّة" بها، وبين الخسارة الانتخابية لحزب "النهضة" في تونس، يقف "الربيع العربي" ليرسم أفقاً في الوعي السياسي العربي يتمحور حول الخروح من الإلغاء والإقصاء اللذين هيمنا على معظم تجربة العرب السياسيّة الحديثة.

بقول آخر، سجّل حزب "النهضة" أنه يستطيع أن يقدّم لتونس ممارسة ناضجة في قبول مبدأ التداول في السلطة، وهي من الأسس العميقة للديموقراطية. ولعل الأهم أنه مارس ذلك النضوج السياسي مع طرف تعامل معه بالقمع والترهيب والإقصاء والتهميش والاستئصال، على مدار عقود، إذا سلّمنا بما هو شائع من استمرارية النهج السياسي لسلطة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، عبر حزب "نداء تونس".

الأرجح أن تلك الأمور العميقة في التجربة السياسيّة لتونس، تذهب إلى أبعد من بعض الاختزالات الشائعة لتلك التجربة، على غرار حصرها في زاوية ضيّقة نسبيّاً كـ"صراع العلمانية والإسلام السياسي". صحيح أن ذلك الصراع حضر في تلك الانتخابات، لكن يصعب اختزال تجربة تونس مع "الربيع العربي" في ذلك البعد وحده.

واستطراداً، فالأرجح أن قبول حزب "النهضة" بالمرتبة الثانية في عدد مقاعد البرلمان، حرّك في ذاكرة كثيرين صورة نقيضة تماماً تتمثّل في شعار "آخر انتخابات ديموقراطية" الذي رفعته "الجبهة الإسلاميّة"الجزائرية في انتخابات 1991 البرلمانية التي فازت بها، فأعقب ذلك الفوز حرباً أهلية مأساوية حفرت بحروف قاتمة في ذاكرة الجزائر والساعين إلى الحرية في العالم العربي.

تجدر المسارعة إلى القول بأن "الجبهة الإسلامية" المحسوبة على حركة "الإخوان المسلمين"، لا تتحمّل مسؤولية حصرية عن تفجّر ما يسميه الجزائريون بـ"العشرية السوداء" (وهو مصطلح لا يخلو من عنصرية لغويّة)، لكنها بدت ميّالة إلى استعمال فوزها كأداة للإقصاء والإلغاء لآخرين في الجزائر. وفي المقابل، من المستطاع القول أنه إذا كان الإقصاء والإلغاء "توجّهاً مُعلناً" (كي لا يكون النقاش محاكمة على النوايا)، لدى "الجبهة الإسلاميّة"، فإن الاستئصال القمعي الشرس كان التوجّه المُعلن والمُمارس والمتأصل من قِبَل النظام المستند إلى العسكر في الجزائر. وربما هناك مساحة نسبيّة للقول بأن أفقاً مسدوداً ارتسم في جزائر بأثر من تصادم عقليَتي إلغاء، هما "الجبهة الإسلامية" ونظام "جبهة التحرير الوطني" الذي كان يقوده الرئيس الشاذلي بن جديد. ما هو الجذر المشترك، سياسيّاً وثقافيّاً، الذي جمع النظام بمعارضته الأكثر جذريّة؟ سؤال يحتاج إلى تجديد النقاش فيه، خصوصاً أن ملامح كثيرة من تلك التجربة حضرت في الحروب التي ما زالت ترافق "الربيع العربي"، على الأقل في مجموعة من دول ذلك الربيع.

عند هذه النقطة، يصعب التعامل بخفّة مع مسألة قبول حزب "النهضة" المتّصل بحركة "الإخوان المسلمين"، بأن يعطي حزباً يمثّل نظاماً قمعيّاً وإقصائيّاً، ممارسة سياسيّة لم تكن موجودة في الثقافة السياسيّة للنظام وممارساته في تاريخ إمساكه بالسلطة وإدارته للدولة في تونس. في اللحظة التي بارك فيها راشد الغنوشي لقائد السبسي بفوزه، بدت حركة "الإخوان المسلمين" في تونس وكأنها قطعت ما يربطها مع الثقافة السياسيّة لدولة بن علي. بعبارة أخرى، أظهر "النهضة" عدم وجود جذر قمعي واستئصالي مشترك، يربطه بالنظام الذي شارك في إسقاطه عبر حراك "الربيع العربي".

إذاً، في تونس، ظهر "الربيع العربي" بوصفه حركة قطع سياسي وثقافي مع الثقافة السياسيّة السائدة في معظم النُظُم العربيّة الحديثة. ويزيد في تألّق ذلك القطع أنه لم يتضمّن نكوصاً إلى تدمير الدولة والخروج من الوطن، بل تحدث بلغة الانفتاح على الديموقراطية، بوصفها تجربة تاريخيّة متنوّعة، وبأفق واسع يصرّ على الوطن (والمواطنية) وتعدّديته في السياسة والاجتماع.

واستطراداً، لطالما كان هناك مأخذ على الأطياف السياسيّة العربية المتّصلة بحركة "الإخوان المسلمين"، بعدم نضوج ثقافتها في الديموقراطية، على رغم امتلاك تلك الحركة نظرية متماسكة عن الدولة، ما ميّز تلك الحركة بين ألوان الإسلام السياسي المعاصر.

في جزائر التسعينات من القرن الماضي، أعطى التوجّه المُعلَن من "الجبهة الإسلاميّة" للإقصاء والتفرّد، تأييداً لذلك المأخذ الذي يؤشّر أيضاً إلى تعارض أصيل بين الإسلام السياسي والأفق الديموقراطي.

من الصعب إغفال تناقض فكري من نوع آخر بين الإسلام السياسي والديموقراطية، من المستطاع تكثيفه (مع شيء من الإخلال)، بسؤال عن الديموقراطية نفسها، وإلى أي مدى يجدر أن تعامل كنموذج، ما يوصل أحياناً إلى رسمها بكثير من الطوباوية. هل هناك حق أصيل في الثقافة السياسيّة برفض النماذج؟ هل تفتح تجربة "الربيع العربي" أفقاً لنقاش فعلي، بمعنى أن يكون خارج السلطات والهيمنات؟ عن العلاقة حضاريّاً بين الإسلام السياسي والتجربة الديموقراطية في إطارها الواسع وضمن تعددية أشكالها تاريخيّاً؟ 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها