الثلاثاء 2014/12/23

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

شكراً تونس

الثلاثاء 2014/12/23
increase حجم الخط decrease

لا يمكن الا الانحناء امام التجربة التونسية. لم تكن الانتخابات الرئاسية الاخيرة ترجمة فعلية لثورة تونس، رائدة في الربيع العربي،وإنجازاتها وشعاراتها، لكنها كانت، بلا أي شك، منافسة ديموقراطية حقيقية لا تختلف عن المنافسات الانتخابية التي تجري في أعرق الديموقراطيات الغربية وأهمها.

 ومثلما حبس التونسيون أنفاسهم قبل اعلان اسم الفائز بالرئاسة وعدد الاصوات التي نالها، كذلك استمتع كثيرون غيرهم من مختلف انحاء العالم العربي بمتابعة وقائع معركة سياسية حقيقية لا غبار عليها.. واستعادوا الامل الصعب بان تصل مصر وليبيا وسوريا واليمن يوما الى هذا المستوى من العمل السياسي.

الوقائع والصور والارقام، وحتى التجاوزات المحدودة وردود الفعل العفوية، كانت كافية للدلالة على ان ثمة خطوة إلى الامام اتخذت في تونس: ثمة تجربة سياسية تنضج، ثمة وعي متقدم يعبر عن نفسه، ويؤسس لمرحلة ما بعد الانفعالات الاولى التي اطلقتها الثورة وما زال التونسيون في غالبيتهم الساحقة أسرى لها. لعل عملية الاقتراع كانت التعبير الاول والابرز عن بدء الانتقال الطبيعي، التدريجي والسلمي والبطيء الى حد ما، من الطغيان الذي كان بمثابة قدرٍ، الى الدولة الحديثة التي تقترب من روح العصر ومعاييره وقيمه.

كانت انتخابات بكل ما للكلمة من معنى، من استطلاعات الراي العلمية التي رجحت اسم الفائز وصدقت، الى الحملات الانتخابية التي التزمت الاحكام والقوانين، قبل ان تلزم الصمت وتحترمه، الى معدلات الاقبال التي كانت واقعية جدا، الى عمليات الاقتراع التي خلت من اي انتهاكات خطيرة، الى عمليات الفرز التي لم تشبها شائبة، وصولا إلى اعلان النتائج التي تلتها على الفور الاعترافات المتبادلة، والتهاني التقليدية. سقط عدد من الجرحى في الارياف، مثلما يحصل تماما في اي دولة ديموقراطية متطورة، عندما يتسرع الفائز باعلان الفوز.

 كانت انتخابات نموذجية فعلا، لا يقلل من مصداقيتها ومن نزاهتها ومن ريادتها شيء. صحيح ان الانطباع العفوي، من الخارج، يقود الى الاستنتاج بان تونس وثورتها كانت تستحق أفضل من الكهول والفلول الذين اختارتهم في صناديق الاقتراع. لكنه شأن التونسيين وحدهم وقرارهم الذي لا بد من احترامه وتقديره. الغالبية التونسية الدقيقة والتي لا شك في نسبتها هي التي أرادت ان تكون خاتمة المرحلة الانتقالية من دكتاتورية زين العابدين بن علي الى دولة الدستور والقانون والمؤسسات على هذا النحو.

عندما فاز حزب الكهول والفلول، حزب نداء تونس، في الانتخابات النيابية الاخيرة، كان ثمة مبرر للاشتباه بنهاية الثورة التونسية، بما هي تحول جذري في تشكيل الوعي والدور لجيل كامل من الشباب التونسي. يمكن للانتخابات الرئاسية الاخيرة ان تعمق هذا الاشتباه، برغم انها أستوفت الشكل بدقة متناهية وحافظت الى حد ما على الطموح الأهم للثوار الاوائل: لا زعيم الى الابد، ولا إسلامي يختزل الدنيا والاخرة.

لعل اختيارهم رئيسا قارب التسعين من العمر، هو تعبير عن ذلك الرهان الضمني على ان التناوب على السلطة لن يكون صعبا ولا بعيد المنال. وكذا الامر بالنسبة الى إستبعادهم الاسلاميين، ربما بأمل ان تتبلور تجربتهم وترتقي الى مستوى التجربة التركية او ربما الى مستوى التجارب المسيحية الديموقراطية. وهو ما حصل بالفعل في العمليات الانتخابية الاخيرة التي قدمت مثالا استثنائيا يستحق التقدير والاحترام من الاسلاميين الذين اكسبتهم المعركة أفقاً رحباً، وخطاباً متميزاً، وسلوكاً متحضراً فعلاً، ليس فقط في قبول النتيجة وتهنئة الفائز على الفور، بل ايضا في الحديث عن مغزى الانتخابات ومعنى السياسة.

لم يكن من قبيل الصدفة ابداً ان تصدر عن الخاسر الاكبر في الانتخابات، زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي تلك العبارة التاريخية عن تونس التي تتأهل الان لتصبح "أول ديموقراطية عربية". وهو توصيف يتسم بالكثير من الدقة، والرؤية.. التي لا تزال تلوح لكثيرين من العرب ما زالوا مهددين بأحد الاستبدادين، او كليهما معاً.       

 

 

       

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها