الأربعاء 2024/03/27

آخر تحديث: 10:27 (بيروت)

المطرية وطقسها الجماعي

الأربعاء 2024/03/27
المطرية وطقسها الجماعي
مائدة الإفطار الجماعي في المطرية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يوم الإثنين الماضي، احتفل حي المطرية القاهري بطقسه الرمضاني المستحدث، للعام العاشر أعد الأهالي إفطاراً جماعياً. تراصت الموائد بطول شوارع الحي ليتسع لحوالي 25 ألف شخص. عاماً بعد عام، يلفت الاحتفال السنوي وسائل الإعلام المحلية والعربية فتقوم بتغطيته، ومع ذلك الاهتمام تتسع تفاصيله، فلم يعد مقتصراً على طقوس الأكل الجماعي المتاح للجميع، تلك الطقوس المستعارة من تقاليد موائد الرحمن التكافلية لغير القادرين، بل صار يواكبه تزيين للمكان العام أشبه بزينة الأعراس وفنون غرافيتي على الجدران محتشدة بالنصوص، وفرق مديح نبوي من الشبان والشابات، وغيرها مما يجعله أشبه بمهرجان شعبي سرعان ما انتشرت نسخ أصغر حجماً منه في أحياء القاهرة الأخرى.

لطالما كان الشهر الكريم، شهراً موسوماً بالجماعية. الجماعية بمعناها المحسوس والقريب، في صور تمتد على قوس واسع من الطقوس الروحية، إلى الدورات الأهلية لكرة القدم المنظمة في الأحياء. وكذلك هو شهر الجماعية المتخيلة في صورتها الوطنية المبرمجة بسخاء في شاشة الدراما التلفزيونية وبطول ساعات ما بعد الإفطار التي تخيم بهدوئها النادر على الشوارع، فيما تبث رسائل ورموز ومعاني وصوراً هي الأكثر رسوخاً في ذاكرتنا الجماعية، لتصنع قسطاً وافراً من خيالنا المشترك كجماعة وطنية واحدة.

يدمج مهرجان المطرية الرمضاني بضعة تقاليد قائمة، ويذكرنا بتقاليد شعبية اندثرت بالفعل أو في طريقها للاندثار تحت ثقل عجلة الحداثة ومؤسسات دولتها التي فككت المجتمع التقليدي وعاداته والكثير من مؤسساته. لكن إفطار المطرية يحمل أيضاً دلالات سياسية. ففي العقد الماضي، علاوة على حصار مؤسسات المجتمع الأهلي السياسية والنقابية والخيرية، قام نظام 30 يونيو بتعطيل العديد من أشكال الجماعية، بداية من الحرمان من الحق في التظاهر حتى عقد البطولات الكروية بلا جمهور في المدرجات. وبالتوازي، واصلت الدولة تمزيق النسيج العمراني للقاهرة ومدن أخرى، والتوسع في عزل مناطقها بعضها عن بعض، والتهجير القسري لسكان أحياء بجملتهم، ومصادرة الفضاء العام وتحويله إلى أنشطة تجارية أو نطاقات مسوّرة غير متاحة لمحدودي الدخل.

هكذا يلفت مهرجان الإفطار الجماعي الأنظار كونه حدثاً أستثنائياً، وهو يذكرنا بشكل رمزي بإمكانية استعادة الفضاء العام والاستمتاع به، ويعيد إلى الأذهان معاني مثل الأهلية والمحلية والمشترك والعام.

الملاحظة المتكررة بشأن الإفطار هو تمثيله للتراتبيات القائمة في المجتمع وآلياته للإقصاء والإدماج. فغير أن المناسبة بالتعريف تخص المسلمين (وإن كان هذا لا يمنع حضور غيرهم بالطبع)، فالمشاركون في الإفطار من الذكور فقط، فيما تكتفي النساء بالإطلال من النوافذ والشرفات. بهذا الشكل تكون تلك الجماعية الأهلية موسومة بختم الغالبية الدينية من جانب، ومقتصرة على رجالها من جانب.

يحمل حي المطرية، الواقع في شرق القاهرة، اسماً تعود أصوله على الأغلب إلى كلمة لاتينية بمعنى شجرة، حيث تنتصب في القلب منه شجرة مريم الشهيرة التي يعتقد أن العائلة المقدسة استظلت بها في رحلة هروبها إلى مصر. وإن كانت تلك الشجرة تذكرنا بالطبيعة الزراعية للحي في الماضي وحتى وقت قريب، فإن الحي في جهته الشرقية حيث تقع منطقة مسطرد، يحمل بصمات تحديث دولة يوليو التصنيعي وقطاعها العام، بحضور شركات مصر للبترول وبسكو مصر ومصر للألبان على جانب ترعة الإسماعيلية. وغير معدلات التلوث الخانقة في الهواء بسبب عوادم المصانع المنتصبة بالقرب من المناطق السكنية، فإن التركيبة السكانية للحي المكونة من هجرات ريفية وطبقات عاملة وصغار موظفين من قاع الطبقة الوسطى، تعكس تاريخ مشروع التحديث ذي النتائج المتواضعة.

في جمعة الغضب، إبان ثورة يناير، قامت حشود الأهالي بإحراق قسم شرطة المطرية، وفي الليلة نفسها سقط 33 قتيلاً من المتظاهرين في الحي. ومع الذكرى الثالثة للثورة، وفي اشتباكات بين الأمن مع مؤيدي الرئيس المعزول مرسي، قُتل حوالى 26 من الأهالي بعدما أحرق القسم المعاد ترميمه مرة أخرى. ولم يُعَد افتتاح قسم الشرطة هناك سوى في العام 2017.

اليوم لا تظهر الأجهزة الأمنية الكثير من الانزعاج من الطقس الجماعي المستحدث، بل ولعلها تجد فيه تفريغاً غير مؤذٍ. وفي إفطار هذا العام، مدت الدولة يدها على الحدث الأهلي بهدف احتوائه، وذلك بحضور عدد من الوزراء الحاليين والسابقين جنباً إلى جنب مع أهالي المنطقة.

لكن بنهاية الأمسية، ومع انطلاق الهتافات من أجل فلسطين، انقلب الإفطار الجماعي إلى تظاهرة عفوية بدت الأكبر في القاهرة منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها