الإثنين 2023/02/27

آخر تحديث: 07:47 (بيروت)

تاريخنا الذي نخاف منه

الإثنين 2023/02/27
تاريخنا الذي نخاف منه
increase حجم الخط decrease

تحرك الجدل والسجال، واحتدمت الإدانات والاتهامات، حول مسلسل معاوية بن أبي سفيان الذي سُيعرض في شهر رمضان القادم، قبل أن نعرف مضمونه وحبكته، درجة انحيازه أو موضوعيته، دوافع استحضاره وأغراضه، فكرته ورسالته الدرامية.  لا لشيء إلا لأنه يستحضر جملة أحداث ووقائع ومجموعة شخصيات في التاريخ الإسلامي-العربي، تقع جميعها على خطوط تماس خطرة ومتفجرة بين قناعات متباينة، وسرديات متناقضة لمجريات التاريخ، وتفسيرات متضاربة حول حقائقها ودلالتها وتداعياتها الأخلاقية وآثارها الدينية.

نحن أمام تاريخ، امتزج في داخله: المقدس والبشري، الديني والدنيوي، الواقعي والخيالي. ما جعل هذا التاريخ مؤسطراً ومتعالياً، نسقط عليه أمنياتنا ورغباتنا، نلوذ به في حاضرنا ليعوض علينا الشعور بالضعف أو الهزيمة، ونصوغ ثوابتنا وبديهياتنا على أساسه، نبني عليه توقعاتنا للمستقبل لأن أحداثه اختزلت حقيقة الأزمنة كلها.  حتى بات هذا التاريخ منطقة المحرمات التي يحظر الدخول إليها أو التفكير بها إلا بتصاريح وإجازات مسبقة من حراس حقائقه ومعانيه.

 المفارقة أننا بقدر ما نبجل تاريخنا ونستلهم مسلكياتنا ومبادراتنا الحاضرتين من إشراقاته، وبقدر ما نؤسس هوياتنا ووعينا وحتى عقائدنا على الماضي البعيد، فإننا في الوقت نفسه نخاف من هذا الماضي، ونهرب من تداوله والتفكير فيه بحرية، ونحذر من استدعاء أكثر شخصياته لأغراض نقدية أو استكشافية. كل ذلك، خوفاً من ارتدادات معاركه على واقعنا، أو تهديد صراعاته واصطفافاته لسلمنا الاهلي المعاصر. 

كأن أحداث التاريخ لا وعاء زمني يؤطرها ويحد من تمددها اللامتناهي. وكأننا أمام نزاع بين سرديات نهائية متعددة وتأويلات متعارضة وقداسات متناقضة عابرة لكل الأزمنة وحاضرة بفاعلية في كل العصور. وكأن حل هذا النزاع بين هذه السرديات والقداسات، لا يكون بتفكيكها وإعادة إنتاجها، وإنما بفض الاشتباك بينها، وترك مناطق الاختلاف مغيبة وربما منسية، أو على الأقل لامصرح بها وغير معلنة. وكأن صيانة التاريخ والدفاع عن ثوابته وتأويلاته المقررة جزء من الأجندات أو التسويات السياسية الراهنة، وكأن انتقاء أجزاء من التاريخ واقتطاع أجزاء أخرى، يحفظان لنا هذا التاريخ، ويحُولان دون الوقوع في الفتنة التي نُخوَّف بها دائماً.

رغم  أن الذاكرة العربية تملك أكبر رصيد توثيقي وسردي لأحداث تاريخها وماضيها، إلا أن تدبر هذه الذاكرة لتاريخها ووعيها به بقيا ضعيفين بالقياس إلى باقي الثقافات والمجتمعات الأخرى التي قررت تصفية حسابها مع تاريخها لا بالقطيعة معه، بل بتنقيته ونقده، بفهمه وتفسيره وتأويله بما يلائم حاضرها. ما يعني أننا لم نجرؤ بعد على قراءة تاريخنا واستكشافه، رغم أنه مدون بكثافة ومحفوظ بعناية، بحكم هيمنة تمثلات راسخة حوله تحولت مع الزمن إلى عقيدة راسخة، وبحكم أننا ما نزال غير معنيين بمعرفة ماذا حدث في التاريخ وكيف حدث، بقدر ما نريد تاريخاً على صورتنا ومسرحاً لإسقاطاتنا ورغباتنا وحتى أوهامنا. 

هو أمر ضاعف الصعوبة في أن ينشأ علم تاريخ لدينا.  أي علم لا يكتفي بتنقية أحداث التاريخ مما نحب أن يكون أو مما يجب أن يكون، أي تحريره وإخراجه من أن يكون جزء من علم الكلام (أو العقيدة القويمة)، أو حتى جزء من علم الأخلاق والمواعظ كي لا يعود حقل صراع بين خير وشر، ضلال وهداية،  وإنما يعمد هذا العلم (أي علم التاريخ) أيضاً إلى تحويل التاريخ حقل اكتشاف رحب، ومنطقة تأويل حر لا لنفهم التاريخ فحسب، بل لنفهم أنفسنا على ضوء التاريخ، أي نكتشف تاريخيتنا وبشريتنا بكل محدوديتها وتناهيها، بكل أبعادها الظاهرة والخفية. 

عندها وعندها فقط، سنتمكن من: تعطيل مفاعيل التاريخ المتفجرة وتفكيك أفخاخه،  تأطير الأحداث التاريخية بظروفها الزمنية، سلب قدرة الماضي عن التحكم بالحاضر وفرض إملاءاته، تحويل اصطفافات التاريخ وحروبه وإخفاقاته ونجاحاته حقلاً مفتوحاً للقراءات الحرة والنقد الجاد، ليستعيد الحاضر أصالته على الماضي، ويكون لأهل  الحاضر الكلمة الأخيرة في تحديد طبيعة ودرجة حضور ماضيهم في حاضرهم. 

 شخصية معاوية ابن أبي سفيان، من أكثر شخصيات التاريخ جدلاً، بين متفهم لأخطائه، ومقدِّرٍ لإنجازاته، ومُحتجٍ بشدة على انتهاكاته الدينية والأخلاقية. قد تكون جميعها محقة بحسب زاوية النظر لكل منها. لكنها مواقف تنتمي إلى زمان معاوية، أي هي جزء من الاصطفافات التي حصلت في زمانه، ليس المطلوب أن نكون جزء منها، لأنها ببساطة لا تعنينا. فالتاريخ، بشخصياته وأحداثه، لا نستحضره لنحاكمه أو نجدد أزماته أو نتموضع داخل صراعاته، وإنما لنفهمه ونؤوله ونمارس نشاطاً استكشافياً حوله. وهذا هو الفرق بين أن تخرج من زمانك وواقعك لتتمثل زماناً ليس لك، وبين أن تتمثل التاريخ في زمانك لتتعرف إلى حاضرك وتفهم نفسك أكثر. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها