الثلاثاء 2018/02/20

آخر تحديث: 10:08 (بيروت)

فتاة الإيميل

الثلاثاء 2018/02/20
فتاة الإيميل
increase حجم الخط decrease
قبل أيام من إعلان خالد علي، انسحابه من الانتخابات الرئاسية، كانت الاتهامات التي طاولته بالتحرش الجنسي قد خرجت من دوائر المجتمع المدني، إلى العلن. فالرسالة الإلكترونية التي وصلت إلى مجموعات تعمل في الشأن العام، نهاية العام الماضي، تضمنت، إضافة إلى اتهام علي بالتحرش، اتهاماً آخر لأحد أعضاء حزبه بالاغتصاب. وكانت فداحة الاتهامات التي تضمنتها رسالة الموظفة السابقة في المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والذي كان يرأسه علي، وتضمينها تواريخ وشهوداً وتفاصيل، أسباباً كافية لأخذ الموضوع بالجدية التي يستحق.

لكن التوقيت كان قاتلاً. فالبعض قفز إلى تحميل الأمر كله للأمن باعتبار الأخير يرمي إلى تشويه سمعة المرشح المحتمل وحزبه. وفي الوقت نفسه، فإن الكثير ممن استبعدوا السيناريوهات التآمرية، ظلوا مترديين أمام سبل التعامل مع الأمر، ومدى علنيته. فالشحنة الحماسية التي استُثمرت في حملة جمع التوقيعات لترشّح خالد علي، والتورط العاطفي للكثيرين من معارضي النظام فيها، كانت مهددة. ولم تتعلق المخاطرة فقط بحظوظ علي في الانتخابات، بل بالأمل في إمكان الفعل السياسي ومعارضة النظام، بالأساس، وهي المعارضة التي تم تكثيفها في شخص علي وحملته الانتخابية حينها.

ربما كانت تلك الأسباب وراء الصمت الذي خيم على حزب "العيش والحرية"، وامتناعه عن التعليق على الأمر بعدما أصبح علنياً. لاحقاً، عرفنا بأن الحزب شكل لجنة من خارجه للتحقيق في الاتهامات، وإن لم يعلن عنها حينها. ومنذ إيام قليلة، أصدر الحزب، لا اللجنة، بياناً حول نتيجة التحقيقات. وبرّأ البيان، علي، من الاتهامات التي وجهت إليه، واكتفى بوصف العضو الآخر بارتكاب فعل مشين.

من الناحية السياسية، يبدو أن سمعة خالد علي وصورة حزبه تضررتا بشكل كبير، عصي على الترميم، حتى مع صدور نتائج التحقيق لصالحه. فبيان الحزب هاجمته أطراف عديدة. فهناك من وجده خضوعاً للابتزاز، وأنه وجّه تهمة "الفعل المشين" بلا أدلة، وشوّه سمعه المتهم الثاني، من أجل الظهور بمظهر المدافع عن القيم النسوية. وفي الجانب الآخر، ثمة من انتقد انعدام الشفافية في ما يخص تشكيل اللجنة وطريقه عملها والضمانات التي تثبت نزاهتها. وثمة من ألقى باللوم على الحزب، لتقصيره في اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتشجيع المدعية على التعاون في التحقيقات.. وهو التقصير الذي، في رأي هؤلاء، جعلها تمتنع عن التعاون في النهاية. غير أن تعبير "الفعل المشين" كان غامضاً، وغير مناسب، لتوصيف تهمة الاغتصاب.

وإجمالاً، فإن صياغة البيان، وقبلها التخبط الذي أحاط بعملية التحقيقات، أعطت انطباعاً عاماً بأن الأمر كله كان معنياً بحفظ ماء الوجه، لا أكثر. فاللغة القانونية الصرفة، والإشارة إلى "الخبراء" الذين تمت الاستعانة بهم في التحقيقات، والنكهة الدفاعية لبيان الحزب، كلها توحي بتحول الأمر إلى مجرد تمرين إجرائي، ومشاحنة لغوية، معروفة نتائجها مسبقاً. فمع رفض المدعية والشهود، الانخراط في التحقيقات، لم يكن من الصعب توقع النتائج. بل ذهب البعض إلى أن طريقة تعامل الحزب مع الأمر برمته، كان خيانة للقيم التقدمية والنسوية التي يدعي الحزب الدفاع عنها وتمثيلها.

تحمل تلك الانتقادات الكثير من الوجاهة بالطبع، وإن كانت لا تخلو من القسوة الزائدة. فولاية الحزب على تحقيق في بلاغ عن وقائع حدثت خارجه بالكامل، واستدعاء شهود لا يرتبطون به بأي صلة، لا تخلو من معوقات ومعضلات إجرائية. وفي حين أعلنت المدعية أنها غير راغبة في اتخاذ إجراءات قانونية تجاه المتهمين، وامتنع الشهود عن المثول أمام اللجنة، فإن هذه اللجنة، في كل الأحوال، لا تملك سلطة توجيه اتهامات جنائية، كالاغتصاب، أو إصدار حكم بالإدانة. وإن فعلت، فلن يفاجئني أن يرفع المُدان بتهمة "الفعل المشين" دعوى قضائية على اللجنة والحزب، أمام المحاكم، وفي الغالب سيكسبها. وبالطبع، كل هذه الحجج القانونية والإجرائية تحديداً، هي ما يغضب الرافضين لبيان الحزب، بوصفه إغراقاً في اللغة القانونية والإجرائية على حساب حقوق المدعية/الناجية، في إهدار للقيم والمبادئ التقدمية والنسوية.

هكذا، تكشف القضية، المسافة بين النظرية والمبادئ المعلنة من جانب، وبين الإجرائي والتطبيقي من جانب آخر. وبغض النظر عن التشكيك في نوايا الحزب ومدى إخلاصه لمبادئه، فإن التطبيق يبدو إشكالياً في كل الأحوال، تواجهه معضلات واقع تحكمه قيم ذكورية متجذرة، وبنية قانونية خارجة عليه، وهو مرغم على العمل في إطارها، إضافة إلى حسابات سياسية وانتخابية براغماتية. ويأتي هذا كله متضافراً مع هشاشة تنظيمية تعانيها الأحزاب في مصر عموماً، مع غياب السوابق والخبرات المحلية.. فهذه الحالة الأولى من نوعها.

لكن النتائج ليست كلها قاتمة. فهذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها حزب مصري تحقيقاً بشأن اتهامات جنسية مواجهة لواحد من قياداته، وتُكشف النتائج علناً أيضاً. وليس هذا بالضرورة ما يحسب للحزب فقط. فالرسالة الإلكترونية انتشرت بشكل كبير، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تناقلت القضية وناقشتها، واللغة الحقوقية والنسوية التي توسّع وتحمي مكانها رويداً رويداً في النقاش العام، وحملة "أنا أيضاً" التي تتسع يوماً بعد يوم، كل هذا يضعنا أمام واقع جديد. فبنية تكنولوجية تتيح ولوج الحيز العام، مع تحول بطيء في الوعي والخطاب لصالح المبادئ التقدمية والنسوية، تبدو إنذاراً بأن ما كان يتم في الخفاء ويظل في الخفاء، صار له أن يخرج للعلن بسهولة، وأن ما كان مقبولاً أو متواطأً عليه في الماضي، لن يكون كذلك بعد اليوم. لكن كل ذلك مجرد مقدمات، لا أكثر. وتحويلها إلى واقع يستدعى الكثير من الجهد والنقد الذاتي والحوار والشجاعة، لتضييق المسافة بين النظري والمبدئي من جهة، وبين ما يطبق على أرض الواقع من جهة ثانية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها