الأحد 2018/11/04

آخر تحديث: 08:04 (بيروت)

السيسي يضحك

الأحد 2018/11/04
increase حجم الخط decrease

تعالوا نعترف، كلنا قلنا أن السيسي لن يبقى طويلا، وأن زمن الانقلابات قد انتهى، وأن الانقلاب يحمل بداخله أسباب سقوطه، كلنا، أو أغلبنا رددنا هذه الخرافات، فيما ضحك السيسي أخيرا وكثيرا، ولم يزل يضحك.

 

بالأمس شهدت مصر مؤتمر ال (أي حاجة) للاحتفاء ب (أي شيء)، ملايين الدولارات، تذاكر طيران وحجوزات فنادق لمراهقين من دول ننطق أسمائها بصعوبة، مراسم واحتفالات، ونصب تذكاري لإحياء الإنسانية، لا أحد في الدنيا يفهم إلى الآن ما فائدته أو حتى معناه، ولماذا بدا السيسي أمامه ككاهن وثني قديم يمارس طقوسا لاستدعاء روح طيبة أو شريرة، لا فرق ..

 

العبث هو العنوان الكبير الذي يحيط بنا، ويختزل المشهد، مذبحة في المنيا، يسقط على أثرها شهداء مسيحيون، مقتولون على الهوية الدينية، للمرة الألف، نفس طريقة التنفيذ، نفس جهة التنفيذ، على الأغلب، فيما كان رئيس الجمهورية يضحك إلى درجة "الكركعة" والمدام بدورها تضحك ..

 

الرجل يريد أن يكون رئيسا، مبارك آخر، مثل الذي رآه طوال حياته وحلم أن يكون مثله، يحضر المؤتمرات هو وزوجته، يلتقط الصور وهو يضحك، يستمتع بنفاق كل من حوله، فات أوان كل هذا فقد تمتع مبارك بوطن أقل خرابا، إلا أن السيسي لن يسمح لأحد أن يفسد عليه حلمه، فليمت من يمت فلدينا الآن مؤتمر، أي مؤتمر وكاميرات، وضيوف، لا يوجد مراسم، سنخترع مراسم، سنجد من يكتب لنا خطابا نلقيه بحماسة وثقة ثم نشير من بعده إلى جماهير يصفقون ونصدق أنهم يصفقون للزعيم الذي يحبونه، الفيلم حلو، والجنرال يربد أن يمثله للنهاية.

 

هذا عن المتن، أما الهامش، فلدينا سبعة شهداء بينهم أطفال، لا يتجاوزون الثانية عشر، سقطوا أمس برصاصات أطلقت عليهم وهم في رحلة لأحد الأديرة، فسحة، انتهت بموتهم جميعا، في أقل من دقيقة خسر أحدهم كل عائلته، فمن المسؤول؟ من نحاسب؟ الإرهابيون، الدين، التراث، الخطاب، أم الدولة؟، أم ترانا نحاسب المقتولين أنفسهم كما فعل بعض الموتورين على مواقع التواصل بدعوى أن الموت جزاء تأييد السيسي، ربما يكون هذا هو الامر الوحيد الأكثر جرما من ضحكة السيسي "المصهللة" ...

 

تعالوا نتفق أننا سنتحدث عن ما هو كائن، لا ما ينبغي أن يكون، الدولة في مصر مركزية قوية، مسيطرة، تحيط بكل شيء حكما، وتوجيها، ووصاية، حين قال السيسي يوما أنه المسؤول عن دين الناس، لم يكن يطلب شيئا، إنما كان يقرر واقعا، فالناس، في بلادنا، على دين ملوكهم، فما دين الدولة المصرية الكائن في مادتها الثانية في الدستور، وأي دين يقصد السيسي، أي إسلام، أي قراءة؟ أول ما يتبادر إلى الذهن المصري حين يقترن لفظ الدين بلفظة الدولة هو الأزهر، بوصفه الجهة الرسمية التي يتمأسس فيها الدين، الرواية الرسمية لدين الدولة، بالأحرى الدين كما تراه الدولة وتتبناه، فأي قراءة يتبنى الأزهر؟

 

في الأزهر من يكفر المسيحيين علانية على الهواء مباشرة، وفي الأزهر من يفرق بين الاعتقاد والخطاب، في الأزهر من يدعوهم بأهل الذمة، وفي الأزهر من يعتبر الذمة عقد تاريخي انتهى وسقط مع الدولة القومية الحديثة، ويراهم مواطنين، في الأزهر قراءات سلفية شديدة التعصب، وفي الأزهر قراءات أشعرية صوفية تنحو إلى الاعتدال، في الأزهر قراءات عقلانية تميل إلى التحديث وفي الأزهر، وفي الأزهر ما دون ذلك، فأي قراءة تتبنى الدولة، وتدعم، وتمارس مسؤولياتها عن دين الناس، من خلالها، وهل هي القراءة التي تتفق مع تحديات المرحلة: رأب الصدع الاجتماعي، والتنمية، ومحاربة الإرهاب، أم تراها القراءة التي تتناسب مع الحفاظ على أمن الدولة بصرف النظر عن أمن مواطنيها؟

 

الحقيقة أن الدولة المصرية "تلعب" ... كل الكروت على الطاولة، القدامة والحداثة، التراث والمعاصرة، الدعشنة والتصوف، الجميع من أجل الوطن، والوطن من أجل الفرد، والفرد هو السيسي، والسيسي يضحك، لنا أم علينا، لا يهم، المهم أن ينبسط الرئيس ..

 

لا يمكن أن يقف تأثير الخطاب عند حدود ألفاظه، فإذا شتم أحدهم والدة آخر فمن المنطقي أن رد الفعل سيتجاوز الشتيمة إلى الضرب والركل وربما تسييح الدم، وتكسير العظام، وحين يظهر مشايخ  الدولة، أبناء المؤسسة الدينية، أو حلفاء المؤسسة العسكرية من دوائر حزب النور، وما أنشرهم (من الانتشار لا المنشار)، وكلهم أصحاب حظوة بمقدار ما يرسخون لحكم الرئيس الضاحك، يكفرون الأقباط، الذي يعدهم السيسي بالحماية والأمان، وهو يحتفل معهم، كل عام، بعيدهم، فإن حدود الخطاب لن تتوقف عند مجرد التكفير، بل ستتجاوزه إلى توفير البيئة المناسبة للتقتيل، فهم كفار، والباقي سهل..

 

أقول بوضوح، إن وجود خامات القتل على الهوية في تراثنا، وتصميماته في أدبيات بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة، وأسواقه التي يلقى فيها رواجا في واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كل هذا لا ينفي أن "المنتج" الرئيس لهذه السلعة هي الدولة، وأن حسابات الأرباح والخسائر موزعة بين سلطة تستمر بالطائفية والعنف والإرهاب، وأقباط يدفعون من دمائهم، ودماء أطفالهم، ثمن استمرارها..

 

إن تكرار العمليات الإرهابية التي تستهدف الأقباط، لا يعني ضعف الأمن المصري، إنما يعني عدم اهتمامه، فالأمن مشغول بملاحقة الصحافيين، والحقوقيين، والمحامين ورؤساء الأحزاب السابقين فضلا عن حراسة الرئيس وضحكاته المجلجلة، في شرم الشيخ، فمن يهتم بالإرهابيين، خاصة إذا كانوا يقتلون الكفار؟

 

 شهدت الساعات الماضية تطاحنا على مواقع التواصل الاجتماعي، في مصر، في محاولات من نشطاء المجتمع المدني لاكتشاف مكامن الخطر، من أين يأتي الرصاص؟، وكيف نحول دون تكرار ما حدث؟، ومتى تتحرك أجهزة الدولة لحمايتهم، وما مدى مسؤولية الخطاب الديني عما جرى؟، تداول المدونون، على اختلافهم صور الجنازة، وتوقفوا كثيرا أمام مشاعر القهر والحزن في صور أهالي الشهداء، وتبادلوا العزاءات المريرة، فيما كان الرئيس يضحك .. فإلى أين؟   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها