السبت 2017/07/29

آخر تحديث: 04:47 (بيروت)

تنورة قصيرة إلى الرقبة

السبت 2017/07/29
increase حجم الخط decrease

اجتهدنا في صدِّ زميلنا التلميذ التونسي الشاب يوسف، وثنيه عن عزمه.  كان قد طلب المساعدة النحوية واللغوية من بعض الزملاء المتقدمين السبّاقين في صياغة شكوى ضارعة مكتوبة باللغة الألمانية موجهة إلى من يهمه الأمر، يرجوه فيها أن يعظ المدرّسة الألمانية حتى ترتدي ثياباً أكثر حشمةً ووقاراً يليق بمقام المدرّسة. ربما كانت موجهة إلى المدرّسة باولينا نفسها.

هذا عدوان على الحرية الشخصية التي يكفلها الدستور الألماني. الرجل ندب نفسه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

ثمة ثقافة مختلفة يجهلها الشاب يوسف، أولها أن الأوربي بعد حربين عالميتين، وقنابل نووية، وطواغيت طبقت شهرتهم الآفاق، ومحاكم تفتيش، واحتقار كنسي عريق  ومديد للجسد والمرأة.. وقع بعد شدّة عمرها عمر الكنيسة؛ في حبِّ الشمس ونفثاتها النحاسية، وتولّعَ بتحميص لون جلده الذهبي تحت الشمس، ليس للأوربي حرص الشرقي على جسده، وحرّ المناخ الألماني به رطوبة، وأنكى من الحرّ العربي. قدّرنا أن الحَرّ الألماني على مقياس درجات الحرارة يفوق الحرِّ السوري بعشر درجات كاملات.

  جاءت باولينا مرة بتنورة قصيرة جداً، أقصر من حبل الوريد، كانت تبلغ الحلقوم، بينها وبين القيامة أقل من شبر، وقد جاء اسم التنورة من التنور، وهو موقد يخبز فيه الخبز، وزميلنا الشاب يوسف، وهو غير الشاب خالد الذي كان يغني لسيدي عبد القادر في الأغنية الشهيرة، ويشكو إليه ضيق الحال، ويطلب منه أن يروق عليه، يحبُّ خبز التنور مع القهوة صباحاً، فصار يعاني من حرّين، هما حرّ شمس الظهيرة، وحرّ التنورة. وكلاهما يتسبب بالحرائق في الغابات ودماء بني آدم أيضاً.  كان على تنورتها تصوير لدولفين سعيد ضاحك، يثب نحو كرة على قميصها قريباً من النحر، الويل كل الويل للذكور من النحر والنحور.

صاحب الشكوى، شاب وسيم وقسيم، بهيّ الطلعة، رومي السحنة، وله لحية شقراء خفيفة، يأتي إلى المدرسة وهو يرتدي زياً عجيباً، كأنه سيؤدي دور أمير عربي في مسرحية أوربية، قادم من وراء أعالي البحار، فزيّه جلابية بيضاء ناصعة، وعمامة مثل عمامة الجولاني لها شرابة بيضاء من الخلف، يكاد المرء أن يهمّ بتقبيل يده تبركاً بمحياه وطلعته. يجلس بوقار لا يناسب روح الشباب وعنفوانهم، ويغضُّ بصره عن زميلاته غضاً لم نره من قبل، سوى مع الشيخ لؤي الزعبي أمين حركة المؤمنين، الذي قابل المذيعة التي كان اسم برنامجها "بالعربي الفصيح" ثم صار "بالعربي" من غير حركة تصحيحية. شكرته جيزيل على المقابلة من غير حجاب، كان شكرها تحرّشاً به على الهواء، كان عتاباً على عدم رفع رأسه إليها، ولعلها شكّتْ في أنوثتها، فأجابها جواباً سحر الناس بجماله وبيانه عندما قال: أُمــرت شرعاً أن أغض البصر، ولم أُؤمر بوضع الحجاب على رأسك.

ربما تظنه باولينا خجولاً، فأكثر الأوربيين قوم يحسنون الظنَّ بالأفراد بعد التهيئة و"الفرمتة" الصفرية التي تعرّض لها بنيران حربين عالميتين كاويتين، أما الشعوب، فيجري تنميطها حسب الحملات الإعلامية، التي لم تتوقف يوماً من أيام الحملات الصليبية، وهي آنسة تحترم خصائص الشعوب. سألتْ مرة عن حجاب زميلنا يوسف الغاني، أو أنه تطوع، فوضح لها أن الشعر نعمة من نعم الله، وأن قومه لا يحلقون سوى في الكهوف وفي الظلام، ويدفنون الشعر والأظافر تحت الأرض، وزعم أن الشعر والبراثن فيها بروتينات مفيدة لخصوبة التربة، فالأرض أمّنا، ونحن منها، وإليها نعود، فابتسمت من غير استنكار أو تعجب، فمن العيب التعجب من أديان الناس وعقائدهم. الأوربيون في هذه الأيام يحنّون بشدّة إلى الغيب والأديان، الإسلام أكثر الأديان انتشاراً في أوربا حسب الإحصائيات، لا يحول بينهم وبين الإسلام كل الدعاية وحملات الإسلام فوبيا. لكني أظنُّ أن أمثال الشاب يوسف يعملون عمل السامري الذي أضل قومه.

 سقنا يوسف إلى جانب السور الأيمن بالحيلة، وحاولنا إقناعه بأن شكواه لا معنى لها في ألمانيا، فالناس أحرار في أزيائهم. انظر أنت ترتدي ما تشاء، وزميلنا يوسف الغاني يضع على رأسه خماراً أسود كخمار الحرة ذات الحجاب، أما في بلادنا، فمن يحيد عن العُرف يجلجل بالعار، وقلنا له: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، نحن ضيوف لاجئين معاهدين. أصرَّ الغلام إصراراً شديداً، على تقديم شكواه، فاقترحتُ على الزملاء السوريين أن نستدرجه إلى الغابة، ونلقنه درساً لن ينساه، فلنلقنه المنهاج كله. غمزت بعيني اليسرى لمصطفى، فاستدرجه إلى القبو، وهناك مكثا قليلاً، وعادا وقد تخلّى الشاب يوسف عن الشكوى، كما تخلى ولي العهد السعودي عن منصب ولي العهد، إن العهد كان مسؤولا. وعلمتُ أن مصطفى قد لقنه بعض الدروس الخصوصية في الوطنية والسلوك، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فارعوى.

عاد مصطفى والشاب يوسف إلى الدرس، ومصطفى عريس جديد لم يمض على زواجه شهر، قال وهو يتملّى صورة الدولفين المنبثق من الماء، تقطر من جسمه قطرات ماء براقة، نحو كرة عالية بين نهدي باولينا: ضيعنا الربيع العربي، ويريد أن يغرّمنا خسارة الربيع الأوربي أيضاً.

لم يبقَ يوسف شهراً واحداً بزي الفاضلين والشيوخ وزعماء القبائل والكتائب، كان ينقصه سبحة، كل حبة من حباتها بحجم ثمرة العنب. انتقل إلى فصل آخر، مختص بالتأهيل المهني. بعد شهرين أو أكثر، وجدت صورته في صفحته على الفيسبوك وقد تغيرتْ من منزل عالٍ إلى خفض، ثم لمحته عابراً في المحطة بين قطارين هاربين من بطش الوقت، وقد حلق لحيته، وشعر رأسه قزعة مربعات سوداء، وبيضاء حليقة متجاورة، جعل من كرة رأسه لوحة شطرنج دائرية، والقزعة بدعة منكرة ، وارتدى ثياباً مثل ثياب المتصوفة الألمان الهبييّن، واندهشت من التغير الذي وقع له، ثيابه ممزقة مهلهلة على الموضة، وكان قد اخترم شفته ووضع حلقة فيها، ونقش ذراعه بالوشوم. وشوم منكرة، منفرة، مثل عقرب على الرقبة، وتنين على البطن... لوّح لي تلويحة سريعة، ومضى مع مجموعة من الشباب والشابات الألمان كانوا بصحبته، قدّرتُ أن أحداً ما حذره من مغبةّ اتهامه بتهمة الدعوشة، أو أن الحياة وغرورها جرفته في أمواجها، وهي جارفة حقاً.

لقد صبأ.

والمرة الثانية التي رأيته، كانت في المسبح، وكان معه صديقته الألمانية، التي غضضتُ نظري عنها، كما كان يفعل هو، ويفعل عنترة بن شداد، مع أنها ليست جارتي، وليست ذاهبة إلى مثواها، إذ لم تكن تكتسي سوى بورقة توت، وورقتين من أوراق الكستناء، فلّوح لي مبتعداً. كان قد اندمج اندماجاً في الحياة الألمانية، يعادل التطبيع الكامل، ولعله كان يفرّ مني فراره من المجذوم. شدّ في الدين حتى غلبه، أما أنا فكنت أسدد وأقارب، وقد قدمتُ من أجل واجب شبه شرعي إلى المسبح، أوصانا به السلف الصالح، ليس هرباً من الحرّ الألماني النازي، ولا طمعاً في رؤية الحوريات بثياب يمكن مضغها كالقات اليمني. ولا أنكر أنني أحبُّ خبز التنور والدلافين أيضاً، فهي حيوانات وديعة وصديقة للبيئة والإنسان، وإن كنت أجدها أشدُّ فتكاً من حيتان القرش المفترسة. كنت قد جئت من أجل تعلّم السباحة.

ولم يبق لي سوى تعلم فنّ الرماية.

وركوب الخيل.



increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب