الأربعاء 2017/05/17

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

زيارة للطابونة

الأربعاء 2017/05/17
زيارة للطابونة
أمام "مستشفى الموت" الجامعي في طنطا (من أرشيف موقع "التحرير")
increase حجم الخط decrease
أجبرتنى الظروف، خلال الأسابيع الماضية، على التعامل مع واحد من أكثر دواليب الحكومة والبيروقراطية المصرية تعقيداً وأهمية. مبنى حكومى ضخم يقع وسط مسَاكن شعبية قديمة. يتبع المبنى وزَارة الصحة لكنه ليس مُستشفى، بل يعرف باسم المجالس الطبية المتخصصة.

تتولى المجالس الطبية المتخصصة زمام مجموعة من العمليات البيروقراطية التي تمس صحة المصريين، بدءاً من الهيئة القومية لمكافحة فيروس الكبد الوبائي، وصولاً إلى لجان زراعة الأعضاء، ولجان العلاج على نفقة الدولة، وعدد من الملفات التي تتحكم في مقدار ما تنفقه الدولة المصرية على علاج مواطنيها أو تسهيل حياة المرضى المصريين.

يُفترض بالهيئةِ أن تكون عوناً للمصريين، وتوفر لهم العلاج مهما غلا سعره، وحتى لو كان مستورداً. أى بقدر من الإفراط في المجاز، يفترض أن تكون "طابونة" من الطوابين التي تقدمها الدولة لمواطنيها.

"الطابونة" في القاموس هي الفرن أو المخبز. لكنها، في العامية المصرية، تعبير رائج، كأن تقول لأحدهم يأكل من دون حساب، أو يسير على هواه من دون التزام بأي قوانين "إنت فاكر نفسك في طابونة". بالتالى فأي مؤسسة تعمل بلا انضباط أو توزع خبزها مجاناً للجميع، يمكن وصفها بالطابونة.

لم تلتزم الحكومة بالنسبة المقررة في الدستور للإنفاق على الصحة في ميزانيتها الأخيرة. لكن هذا الفتات يظل هو ما يعتمد عليه ملايين المصريين للبقاء أحياء أو لتحسين ظروف مرضهم، ومع ذلك يهاجمهم منظّرو السياسة والإعلاميون، ملقين باللوم عليهم، على طريقة مبارك: "أنتم بتخلّفوا كتير".. أنتم السبب في تدنى الخدمات الصحية بسبب الزيادة السكانية.

تتكون "طابونة" المجالس الطبية المتخصصة من مبنى من أربعة طوابق. في الأول، يتكدس المواطنون القادمون من جميع المحافظات، لكي يتم عرضهم على لجان مُعتمدة من وزارةِ الصحة لتقرر بشكل رسمي أنهم مرضى وتحدد مقدار ما يمكن صرفه على كل حال. يأتى أب من مُحَافظة تبعد 300 كيلومتر عن القاهرة، يسحب ابنه المريض لكي ينضم إلى المتكدسين في القاعةِ الفسيحة في الطابق الأول، أي مئات المرضى وعائلاتهم، والذين جاءوا، لا للعلاج، بل لتزيد مُعَاناتهم بعذاب البيروقراطية. يعرض الأب ابنه على اللجنة، التي تقرر أنه يحتاج شهرياً إلى ثلاث حقن من دواء معين، وذلك بقيمة خمسة آلاف جنيه (250 دولار أميركي). يأخذ الأب قرار اللجنة، الممهور بختم النسر، ويتوجه إلى الجهة التي يفترض بها أن تصرف الأدوية، فتقرر تلك الجهة أن الابن لا يحتاج إلا لحقنتين شهرياً. تتدهور صحة الابن، فيعود الأب إلى "طابونة" المجالس الطبية المتخصصة، ويطلب من اللجنة التي وصفت لابنه الأدوية إصدار ورقة تؤكد لجهة صرف الدواء أحقية حالة ابنه في الحقن الثلاث. وبعد سفر مكوكي بين الجهتين، يأتى الأب من محافظته البعيدة ليجد نفسه في كابوس تقليدي من كوابيس البيروقراطية المصرية، تتقاذفه جهتان حكوميتان.

على غير العادة، فإن الموظفين والعاملين في المجالس المتخصصة قمة في التفهم والاحترام، بل ومن بين عشرات الأماكن الحكومية التي دخلتها في حياتي، هذا أقل مكان في الحكومة وجدت العاملين فيه يتقاضون أو يطلبون إكرامية. وسط الزحام وضغط العمل وضعف الامكانات، يتحلى العاملون بصبر خرافي، ويحاولون مساعدة الجميع الذين من هيئتهم الممهورة بتوقيع المرض لا يتحملون أي ضغوط أكثر مما يمرون به. لكن في النهاية، "العين بصيرة واليد قصيرة"، وبينما يحاول الموظفون مساعدة المواطنين المرضى على إنجاز المعاملات الورقية، وكتابة البيانات، فاللوائح المنظمة لعمل الطابونة تضع العراقيل دائماً أمام الجميع.

جهاز التكييف معطّل في الطابق الأول، حيث يجلس مئات المواطنين المرضى المتعرّقين. يفترشون الأرض، وعند كل خطوة تخطوها في المكان، يجب أن تراقب موطئ قدمك حتى لا تدوس على أحدهم. لكنك إذا صعدت إلى للطَابقِ الرابع مثلاً، ستجد التكييف يعمل، ومساحة واسعة خالية من الموظفين مُقسمة على مكاتب فخمة، كل مكتب يحمل لافتة غريبة في عنوانها، كأن تجد مكتباً بلافتة "مركز دعم واتخاد القرار"، وهى جهة احصائية تابعة لمجلس الوزراء، ويستحيل أن تفهم لماذا هذا المكتب هنا، بمساحة غرفتين، مؤثث بفخامة، وفيه موظف يلهو على "فايسبوك". بقية المكاتب هي لأطباء يفترض أنهم مديرو المجالس وأعضاؤها، لكنهم في أحسن الأحوال يأتون مرة واحدة في الأسبوع لتوقيع الأوراق المطلوبة، بينما يدير الموظفون كل العمل. لكل مكتبين، حمّام، لكن رغم وجود الحمّام في مبنى حكومي عام، ستجده مغلقاً بالقفل لأنه الحمّام الخصوصي بتاع المدير.. أما أنت، فيجب أن تستخدم الحمّام النتن الذي تستوطنه قبائل الذباب في الأسفل.

هذه صورة مثالية للطابونة المصرية. مدير الطابونة يستمتع بالتكييف، يلهو في طابق كامل لوحده، يمتص من الميزانية التي يفترض أن تُنفق على المرضى الذين يزداد عددهم بسبب سياسته التي سمحت بالمبيدات المسرطنة وبالمياه التي تصيب المصريين بالفشل الكلوي. يلهو على "فايسبوك" في مكتبه الفخم، أو يتركه خالياً ليحضر "المؤتمرات العلمية"، ملقياً اللوم على المرضى الذين لا يحترمون النظام، أو الذين يصعدون لاستخدام حمّامه الخاص فيجدونه مغلقاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها