الثلاثاء 2017/05/02

آخر تحديث: 01:06 (بيروت)

مصر بين باباوَين

الثلاثاء 2017/05/02
increase حجم الخط decrease

في تغطيتها لأول زيارة يقوم بها رأس للكنيسة الكاثوليكية، إلى القاهرة، في فبراير/شباط 2000، نقل موقع "بي بي سي" عن المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية في مصر بأن "الزيارة ستساعد في إزالة سوء الفهم الذي ساد لقرون بين المسيحيين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية وأتباع الكنيسة الأرثوذكسية". لكن، وبالرغم من نبرة التفاؤل تلك، فإن التقرير، في ختامه، ينقل على لسان مراسل الشبكة بخصوص زيارة البابا المخططة لدير سانت كاترين، إنه "بالرغم من ترحيب العديد من مسيحيي مصر الأرثوذكس، الذين يبلغ عددهم ستة ملايين نسمة، بهذه الزيارة، فإن الرهبان في دير سانت كاترين قد تكون لديهم مشاعر مختلطة إزاءها، خاصة وأنهم لن يقبلوا أي دعوة للاتحاد مع الفاتيكان".

في مطلع الألفية، التي استقبلتها القاهرة بحفلة ضخمة للموسيقى الفرنسي جان ميشيل جار، بعدما قطعت شوطاً طويلاً في معركتها ضد الإرهاب الذي هيمن على العقدين السابقين، ما منحها طموحاً في أن تكون قِبلة للسياحة والاستثمارات الأجنبية، كان البابا يوحنا بولس الذي لطالما نسب له دور مؤثر وشخصي في الحرب الباردة، وخاصة في سقوط النظام الشيوعي في مسقط رأسه بولندا، يسعى بشكل دؤوب إلى خلق دور لكنيسته في القرن الجديد، في عالم أحادي القطب، لا يهدده خطر الشيوعية بعد الآن، وتبدو صراعاته وأحقاده القديمة في حاجة لمصالحة أخيرة ونهائية، تحت مظلة الرأسمالية المنتصرة والديموقراطية وعولمتهما. لكن للأسف، ومع تلاقي رغبة الحكومة المصرية، التي احتفت بالزيارة الباباوية كتأكيد على الاستقرار السياسي في البلاد، مع رغبة الفاتيكان في لعب دور مؤثر في مد جسور بين الإسلام والغرب، انتهت الزيارة بخيبة الأمل. ففي ختامها، قام البابا يوحنا بولس، بأداء صلاة جماعية خارج أسوار دير سانت كاترين التابع لطائفة الروم الأرثوذكس، الذي وإن زاره لكن لم يسمح له بالصلاة داخله.

يبدو ما بين الكنيسة المصرية والفاتيكان أكثر من مجرد سوء فهم، أو خلاف لاهوتي تم تسييسه في الماضي. ففي الواقعة الأولى للاحتكاك الأول والأكثر مباشرة، بين الأقباط والكنيسة الكاثوليكية، قام بطريرك امارة القدس الصليبية في العام 1099 بطرد الكنائس الشرقية من كنيسة القيامة. ولاحقاً ذهب خليفته، أبعد، فطرد كافة مسيحيي كنائس الشرق المقيمين من المدينة، ثم حرّم قدوم الحجاج الأقباط إلى الأماكن المقدسة. من ناحية أخرى، كان وصول الصليبيين، حافزاً لاندلاع موجات من اضطهاد الأقباط ومسيحيي الشرق عموماً، من قبل حكامهم المسلمين، بدافع من التشكك في نواياهم. في ذلك السياق، يقول المؤرخ البريطاني، أليستر هاميلتون: "أدرك مسيحيو الشرق، ومن بينهم الأقباط، بأن حكمهم بواسطة المسلمين أفضل من وقوعهم تحت سيطرة روما، وخاصة اليونانيون ممن تبادل السيطرة على جزرهم العثمانيون والبنادقة". لاحقاً، ومنذ منتصف القرن الخامس عشر، وبعد مجمع فلورنسة، الذي دعت إليه الكنيسة القبطية بعد قطيعة طويلة، سعى الفاتيكان إلى ضم الكنائس الشرقية إلى سلطتها، وقوبلت دعوات الباباوية الرومانية المتكررة لكنيسة الأسكندرية للخضوع، بتحفظ أو حماس لم يدم طويلاً، وغالباً بطلبات من الأقباط لمساعدات مالية.

في مطلع القرن الثامن عشر، يقول البابا كليمنت الحادي عشر: "في هذ المدينة، يوجد ممثلون لكل شعب، ما عدا الأقباط". كان البابا يشير إلي غياب الطلاب الأقباط عن مدارس اللاهوت في روما، والتي كان للموارنة، واليونايين والأرمن، وبشكل أقل السوريين، ممثلون في مدارسها قبل بضعة قرون بالفعل. ومع أن المرسَلين الكاثوليك إلى الشرق، كانوا قد اختلفوا حول سبب عدم استجابة الأقباط للمحاولات المتكررة لتشجيعهم على السفر للدراسة في روما: بين حبهم الفريد لوطنهم، وسهولة العيش فيه، أو قلة همتهم وضعف رغبتهم في تحصيل العلم، وأحياناً عنادهم الشيطاني في التمسك بهرطقاتهم... فإن أحد الأسباب التي لم يذكروها كانت تحوّط الأقباط من شبهة إرتباطهم بالباباوية، والغرب المسيحي إجمالاً، وما يمكن يستتبعه ذلك في حال وقوع صِدام بين الشرق والغرب.

قبل أسبوعين من زيارة البابا فرنسيس لمصر، تبنى تنظيم الدولة الإسلامية هجوماً مسلحاً على نقطة أمنية بالقرب من دير سانت كاترين، في جنوب شبة جزيرة سيناء، التي هجرها سكانها الأقباط قسراً، بفعل هجمات التنظيم الذي لطالما نعتهم بالصليبيين، أي هولاء أنفسهم الذين طردوهم من القدس في الماضي. لم تعد الصلاة الباباوية ممكنة، لا داخل الدير، ولا خارج أسواره، بأي حال. القداس الإلهي تتم مراسمه في استاد "الدفاع الجوي"، ولا يمكن الجزم أيهما أقل عرضة للخطر في مصر: الكنائس أم المدرجات الرياضية، حتى ولو كانت عسكرية.

بعد أقل من عقدين من الزيارة الباباوية الأولى، لم تعد مصالحة أطراف العالم على مراكزه تحت رايات الرأسمالية والديموقراطية طموحاً يمكن تصوره. فالبابا فرانسيس الذي يدين الرأسمالية في كل مناسبة ممكنة، يقف في القاهرة ليشجب صعود الشعبوية في الغرب هذه المرة. يستقبل الأقباط أخبار الاتفاق على "وحدة المعمودية" بين الكنيستين أخيراً، بمشاعر مختلطة، لكن الكنسية تعود لتنفي أي اتفاق. يبدو تجاوز "سوء الفهم" بين الكنيستين بعيداً، كما كان دائماً. فيما تبدو مصالحة الإسلام مع الغرب أبعد ما يكون. وعلى طائرة المغادرة، يختم البابا زيارته بالتأكيد للصحافيين أنه تحدث مع الرئيس المصري عن قضية مقتل ريجيني، من دون إضافة أي تفاصيل أخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها