الأحد 2017/03/05

آخر تحديث: 16:42 (بيروت)

عبد القادر عبد اللي راحلاً وباقياً

الأحد 2017/03/05
increase حجم الخط decrease

خرج الصوت ضعيفاً واهناً كعادته:

اهلين عبد القادر، تفضل.

التفت نحو الباب مستوضحاً الشخص الذي يناديه صوت أستاذنا الراحل أنطون مقدسي، رأيت رجلاً في الأربعين من العمر مربوع القامة، يقف بالباب، بملامح وجهه الفلاحية القاسية ولحيته القصيرة المشذبة بعناية، دخل سلم وجلس، فيما كان الأستاذ أنطون مقدسي يعرفني به:

هذا عبد القادر عبد اللي. ثم أضاف معرفاً ضيفه بي.

كانت تلك المرة الأولى، التي اقابل فيها عبد القادر شخصياً، ولو اني عرفته عن بعد قبل ذلك بسنوات كثيرة، عرفته من خلال ما ترجمه عن اللغة التركية، ونشر في اكثر من بلد، وعرفته من خلال أصدقاء مشتركين، كان أنطون مقدسي بينهم، وله الفضل بان عرفني على عبد القادر.

حدث ذلك قبل نحو خمس وعشرين عاماً مضت، في مكتب الأستاذ كما كنا نقول عن مكتب أنطون مقدسي في مديرية التأليف والترجمة بوزارة الثقافة بدمشق، والذي لم يكن مجرد مكتب، بل اكثر بكثير. كان مكتباً لادارة أحد أهم مشاريع الترجمة والتاليف في البلدان العربية بهمة وجهد مثقف كبير، وكان ملتقى مثقفين وكتاب ومبدعين من السوريين والعرب والأجانب المارين بدمشق، وكان في بعض صفاته، مكاناً لنقاش قضايا والحوار في بعضها بين شخصين أو اكثر، ممن اتسعت لهم غرفة ذلك البيت الدمشقي الحديث في منطقة الروضة، وقد لعب دوراً سياسياً وثقافياً مهماً في تاريخ سوريا الحديث، اذ كان مقراً للسفارة المصرية قبيل الوحدة السورية المصرية (1958-1961) نسجت في جنباته ملامح دولة الوحدة السورية – المصرية، ثم تحول تالياً الى مقر لوزارة الثقافة السورية، وأطلقت منه أهم برامج التأليف والترجمة في البلدان العربية.

مهد اللقاء الأول لنمو معرفة تالية مع الراحل عبد القادر، وعزز فرصة إكتشاف الرجل بمكانته الثقافية المعرفية والابداعية، والاهم بمكانته الإنسانية، التي يتلمسها الانسان مع اللحظات الأولى للتعرف عليه، رجل ينضح بحب الآخرين، طيبة ومودة لاحدود لها، وتواضعاً، لايغطي معرفة وثقافة عميقتين يتحلى بهما، جدية عالية ومسؤولية، وكلها كانت بعضاً مما عرفته عن الرجل في الفترة التالية بعد ان إلتقينا في إسطنبول في مسيرة التغريبة السورية، التي دفعنا اليها نظام بشار الأسد وحلفاؤه من روس وايرانيين ومليشيات، أمعنوا جميعاً في قتل وتهجير السوريين، وتدمير سوريا عبر سنوات طويلة.

في سنوات اللقاء الاسطنبولي، صرت أقرب الى عبد القادر، لأرى عمق انسانيته، وألتمس مكانته كمثقف كبير، وكاتب بين اهم الكتاب السوريين، إضافة لما هو معروف عنه كمترجم، أكاد اجزم انه الأول بين العرب الذين ترجموا الى العربية عن التركية، وهو الذي لم يكتفِ بترجمة كتب سياسية وروايات ومسرحيات وقصص، بل أضاف اليها ترجمة اعمال درامية تركية، كسبت شعبية كبيرة في الأوساط العربية في خلال العقدين الأخيرين.

تجاوزت قدرات عبد القادر واهتماماته، ماتقدم. اذ جعلت دراسته في تركيا وإقامته هناك لسنوات، واحداً من اهم الخبراء العرب في الشؤون التركية لدرجة يمكن القول معها، انه مختصر موسوعة بالشأن التركي من حيث معرفته بالاحزاب والجماعات والشخصيات السياسية ومواقفها وسياساتها، ومثلها معرفته بالخريطة المعرفية والثقافية، وأبرز أعلامها من روائيين وكتاب ومثقفين وشخصيات عامة، وهو الأعرف بالجغرافيا التركية، التي لا تعني معرفة المدن والبلدات فحسب. بل معرفة الناس فيها وطبائعهم وتقاليدهم وأنشطتهم الرئيسية.

لقد بدا من الطبيعي نمو بيئة تفاعلية بين المعرفة التركية لدى عبد القادر وخياراته في الترجمة عن التركية، التي بدأت من بوابة القصة القصيرة من كتابات عزيز نسين، ثم إمتدت طويلاً مع روايات أورهان باموق في آخر اعماله “متحف البراءة” و”غرابة في عقلي"، مروراً بترجمات لكتاب آخرين بينهم يشار كمال، وأورهان يشار، وفقير بايقورت، وطلحة أغورلو إل، وأجة تمل قوران، وأورهان ولي، وخلدون تنر، والمؤرخ التركي الكبير ايلبر أورطايلي صاحب كتاب “نحن وتاريخنا"، وقد ناهزت الثمانيين كتاباً، جهد من خلالها وعبر ترجماته للاعمال الدرامية والوثائقيات في توضيح وتصحيح الصورة التركية في الذهن العربي، التي شوهتها نظرات التعصب والغلو، وأنظمة الاستبداد عند جاري تركيا من العرب.

لم يكن عبد القادر على عمق انغماسه بالشأن التركي، محدود الحضور في الشأن السوري، انما كان في المكانة الموازية من معرفة الشأن السوري والغرق فيه، وقد جعل معرفته التركية بوابة لمعرفة السوريين بالواقع التركي من خلال ترجماته المختلفة، وبعدما عاد الى سوريا إثر انهاء دراسته في جامعة المعمار سنان باسطنبول، بدأ الكتابة في الشأن السياسي والثقافي التركي للعديد من الصحف والمجلات، بالتزامن مع الترجمة عن اللغة التركية في الترجمة الفورية والترجمة المكتوبة، وبدأ من الطبيعي في ظل قدراته ومعارفه انخراطه بالعمل موظفاً في مركز الدراسات الاستراتيجية بدمشق وفي مكتب الأمن القومي، والقصر الرئاسي في وقت كانت العلاقات السورية-التركية في ذروة تطورها.

غير ان الاعمق في تجربة عبد القادر السورية، كان مع انطلاقة ثورة السوريين 2011 ضد نظام الفساد والقتل، فكان بين أوائل الكتاب المناصرين للثورة، وهو ماعبر عنه بالقول "ما بعد الثورة، مرحلة مختلفة”، وقد صب معظم جهوده الكتابية اللاحقة في الشأن السوري، وانتصاراً لقضية السوريين.

عبد القادر عبد اللي الراحل في قمة عطائه عن ستين عاماً، باقٍ في الحياة السورية بما تركه من أثر ثقافي ومعرفي وابداعي وسياسي، سيظل مؤثراً في حياة السوريين ومستقبلهم الى وقت طويل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها