الخميس 2017/03/02

آخر تحديث: 07:11 (بيروت)

عزمي بشارة:إنتصرت لمقاومة حزب الله..لكني لم أؤيد يوماً سياساته

الخميس 2017/03/02
عزمي بشارة:إنتصرت لمقاومة حزب الله..لكني لم أؤيد يوماً سياساته
increase حجم الخط decrease
يصدر خلال أيام عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كتاب "في نفي المنفي.. حوار مع عزمي بشارة"، يضم إجابات المفكر العربي الدكتورعزمي بشارة، على أسئلة طرحها عليه الزميل صقر أبو فخر، وتقدم للقارئ ما يشبه السيرةٍ الفكريةٍ والسياسيةٍ للدكتور بشارة، بكل ما اشتملت عليه من أطروحاتٍ واجتهاداتٍ ومساجلاتٍ في أسئلة الراهن العربي، وما يتصل بذلك من قضايا العلمانية والقومية والليبرالية، والصراع مع إسرائيل، والثورات العربية، وغير ذلك من مشاغل أنجز عزمي بشارة بشأنها عدة مؤلفاتٍ، تضمنّت جديدا كثيرا على مستوى الاشتباك مع التعقيدات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيق الوصول إلى العدالة والحرية والديمقراطية في العالم العربي.
ويكتسب الكتاب أهمية خاصة لأنه يمثل أول توثيق لتجربة كفاحية ونضالية خاضها بشارة في فلسطين، وخصوصا في معركة حقوق عرب الداخل الوطنية والهوياتية، قبل أن تعمد دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى نفيه. وهي واحدةٌ من محطات سيرة عزمي بشارة، التي يوضح الكتاب تفاصيلها، كما غيرها من مسائل تتعلق بخياراته العروبية، وثوابته الفكرية، وتجربته نائبا فلسطينيا عربيا منتخبا في البرلمان الإسرائيلي، ممثلا لتيار فاعل في الداخل، تجسد في حزب التجمع الذي كان بشارة من أبرز مؤسسيه.
في الاتي تنشر "المدن" الفصل السابع من الكتاب، الذي يتناول تجربة حزب الله من المقاومة الى التورط في الحرب السورية.

موقفك الوطني في شأن المقاومة الفلسطينية بدهي، وهو معروفٌ. وكذلك موقفك من المقاومة اللبنانية؛ فقد وقفت إلى جانبها مثلما وقفتَ إلى جانب المقاومة الفلسطينية بجرأة في أوضاع صعبة حين كنت في الداخل، أي حين كانت في داخل دولة الأعداء. ومع ذلك، يحتاج الأمر إلى شرح بعد تطورات مابعد عام 2011، فأرجو أن تفصّل؟

لفتتني المقاومة في لبنان مبكرًا، خصوصًا عندما بدأ حزب الله الكفاح المسلح في الجنوب. قبله كنت أتابع نضال اليسار اللبناني حين كنت طالبًا، ثم أستاذًا في جامعة بيرزيت، وكانت منشورات القوى الوطنية اللبنانية تصلني باستمرار منذ أن كنت طالبًا في ألمانيا، وتعرفت آنذاك إلى طلاب شيوعيين وطلاب من منظمة العمل الشيوعي وآخرين من الحركة الوطنية اللبنانية. وكنت أتابع مجلة الحرية التي كانت تصدر عن الجبهة الديمقراطية، وجريدتي النداء والسفير التي كان يكتب فيها يساريون. كنت أقرأ السفير كأنني أتابع صحف بلادي. كانت معنا زميلة فلسطينية كان والدها يعمل في منظمة التحرير في بيروت، وتمكنا، من خلالها، من تسجيل اشتراك يومي في السفير، فكانت تصل إلينا الأعداد إلى ألمانيا كل عشرة أعداد معًا، وكنا نقرأها كلها. وتابعت الهدف، وتعرفت عبر الحرية إلى منظمة العمل الشيوعي[1]. لم تكن هذه أمورًا سهلة أو مفروغًا منها قبل عصر الإنترنت.

هكذا كنت أتابع اليسار اللبناني، ثم حركة المقاومة اللبنانية. وحين نشأ حزب الله، وتحديدًا بعد انتخاب السيد حسن نصر الله أمينًا عامًا غداة استشهاد السيد عباس الموسوي، لاحظنا مدى تطور الكفاح المسلح اللبناني، وكنا نتابع ذلك بإعجابٍ شديد، لأنه كان مؤثرًا ومتواضعًا. وكنت قد أصبحت محاضرًا في جامعة بيرزيت. وبعد ذلك تطورت المقاومة اللبنانية بشكل فذ بين عامي 1999 و2000، وكنا نتابع الحرب النفسية التي كان يشنها حزب الله، مثل العمليات التي كان يصوّرها ويخرجها لهذه الأغراض. لكن، كان هناك أمر يزعجني، منذ كنت طالبًا يساريًا راديكاليًا، وهو عبارة حزب الله، أي إن هناك من يحتكر الله له، وكان التعبير مفاجئًا، واستغربناه حين سماعه أول مرة من إيران. ثم فهمنا أن حرس الثورة الإسلامية في إيران هو صاحب هذه التسمية. ولم يكن لدينا موقف سلبي من إيران في المراحل الأولى من الثورة بتأثير الشيوعيين العراقيين الذين كنت أجّلهم كثيرًا حين كنت طالبًا، مع أنني كنت أستغرب أحيانًا تأييدهم ثورة دينية في إيران، وتعاطفهم معها. ولم نكن مطلعين بالتفصيل على ما تقوم به القيادة الإيرانية كقمع اليسار. وفي أي حال، كنا ذاهلين بفكرة الثورة الشعبية، ولأنها ثورة شعبية، ولانجذابنا إلى كل ما تعنيه الثورة الشعبية، تجاهلنا تصفيتها اليسار، أو لم نرد أن نسمع به. ولاحقًا، حين كنت ما زلت طالبا في ألمانيا اتخذت موقفًا نقديًا من نظام دولة يحكمها الكهنوت أو الإكليروس.

اليسار الذي قمعته على غرار حزب تودة الشيوعي.

نعم. وأيضًا مجاهدي خلق كنوع من يسار إسلامي إيراني؛ كنا نستنكر ذلك، لكننا نبقى في إطار الاستنكار. فاليساريون الشبان من أمثالنا كانوا يعانون الضعف أمام الشعب والجماهير. يصعب الآن شرح أجواء مابعد الثورة الإيرانية، لكني أقول لك بصراحة إن هذا كان درسا قاسيًا تعلمته. لا يجوز الصمت على التجاوزات، وعلى تصفية الخصوم السياسيين بالقوة تحت غطاء الشرعية الجماهيرية. هكذا تنشأ الفاشية.

أثار حزب الله إعجابي حقًا، على الرغم من صلته بالحرس الثوري، ومذهبيته الرسمية في وكالة قائده الشرعية الصادرة عن المرشد في إيران. ما أقصده هو القضية، أي مقاومة الاحتلال، والأداء. ولاحقًا، عندما انخرطت في العمل السياسي المباشر والحزبي، وأصبحت معروفًا بصفتي نائبًا في البرلمان، أصبح موقفي يعني موقف تيار سياسي وقوة سياسية، لا مجرد كتابات مثقف. كتبت عن المقاومة مقالة أو مقالتين في جريدة الحياة. لكن، عندما أصبحت عضوًا في البرلمان، صار موضوع وجود إسرائيل في لبنان وانسحابها منه، بإتفاق أو من دون إتفاق، موضوعًا يوميًا في البرلمان الإسرائيلي. واشتهرت خطبي المؤيدة للمقاومة اللبنانية من داخل برلمان الدولة المحتلة، وكذلك مقالاتي حين أصبحت نائبًا. وفي بعض الأحيان، كنت أعبر عن إعجابي بتواضع المقاومة وفاعليتها وتقنيتها العالية. أعرف أن هذه المقاومة مذهبية، وأعرف أن إيران تدعمها. لكن، ثمة آليات، على ما يبدو، في ذهن الإنسان تجعله حين يركِّز على الأساس يتجاوز ما يبدو جانبيًا. كان موقعي في داخل الدولة المحتلة. وفي مجادلات الصهيونيين معي حاولوا دائمًا التركيز على أن المقاومة طائفية وشيعية ومذهبية. هنا، تتطور آلية ما في الصراع مع الخصم السياسي. إنها آلية إنكار ما يؤكده الخصم، وتصبح قضيةً مبدئية بحيث أرفض تهميش البعد المتعلق بمقاومة الاحتلال. وأبعد من ذلك، تتطور علاقة ما بينك وبين حركة سياسية كالمقاومة، حيث إنك في صراعٍ مع خصم سياسي يحاربها. إذًا أنت معها. وهكذا تتطور علاقة كافية بينك وبين الحركة مع أنك لا تعرفها كفاية. لاحقًا، بدأت أظهر كثيرًا في الإعلام العربي والغربي، وأصبح موقفي مؤشرًا من مؤشرات الرأي العام العربي، وأعتقد أن أعضاء حزب الله كانوا سعداء بذلك التوجه، خصوصًا بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان. وفي مابعد، تعرّفت إلى حزب الله سياسيًا مباشرة (طبعًا سياسيًا فقط) مع زياراتي لبنان من العام 2000 فصاعدًا، وأصبحتُ أكثر معرفةً بطبيعته. لكن الأمور لا تجري بهذا الشكل، فأنت لديك فكرة إيجابية مسبقًا، وتخوض صراعاتٍ من أجل قضية المقاومة، وتعرف عدالة المقاومة، وفي الوقت نفسه، لديك هذا العنصر الذي أعتقد أنني روَّجته قليلًا في الإعلام، أي الإعجاب بالقدرة على فرض التراجع على إسرائيل، بضربها موضعيًا في جبهاتٍ محددة. والعمل العسكري مكرّس كله لتحقيق إنجازات عينية لدى حركة وطنية من هذا النوع. وأعتقد أن شبانًا عربًا كثيرين أعجبوا بالمقاومة في تلك الحقبة.

ثم كانت عملية التعرّف أكثر إلى دور حزب الله في المجتمع اللبناني، وتغلغل أصوليته الدينية، فضلًا عن علاقة الحزب بالفلسطينيين في لبنان التي لم أُعجب بها إطلاقًا، وبادرت إلى حواراتٍ معمقةٍ مع الحزب في هذا الموضوع وغيره، وفي مدى واقعية شعارات المقاومة، كشعار إزالة إسرائيل من الوجود. وفي المجمل تعاملت المقاومة معي حليفًا وتعاملت معها حليفًا، لأننا وجدنا قضيةً مشتركةً هي مقاومة الاحتلال. وحتى بعد أن زال الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، بقيت أرى حالةً نوعية في حزب الله، وكنت أرى أن الأنظمة الرجعية العربية تخشى على شبانها من تأثيره وجاذبيته. لم أكن أرى بالشكل الكافي عمق البعد الطائفي لحزب الله، ومدى مركزيته. كنت أرى مذهبية الحزب الأصولية وأتجاهل طائفيته. آخرون رأوا ما لا أراه. ومن غير الممكن فصل تمذهب حزب الله عن ولائه لإيران، وهذا ولاء لدولةٍ دينية غير عربية (تعددية صحيح، لكن تحت سقف ديني أصولي). والحقيقة أنني لم أرغب في رؤية ذلك، مع أنني كنت أعرفه، وربما لم أعلّق عليه الأهمية الكافية، فقد كانت هناك آليات إنكار تحاول تهميش الموضوعات التي يراها الآخرون مركزيةً، وهي العلاقة الاستخدامية بين إيران ودور حزب الله.

موقفي إلى جانب المقاومة كان صحيحًا بشكل عام، ومن حيث الجوهر، لكن ثمة أمورًا جعلتني أذهب أبعد مما يجب في العلاقة مع حزب الله، وأعتقد أني أخطأت في بعض الأمور بنية حسنة، خصوصًا في أثناء حرب تموز/يوليو 2006، حين تعرّض الحزب لحملةٍ من داخل لبنان والعالم العربي كله كأنه هو المخطئ، وعليه أن يتحمل المسؤولية، وأنه ارتكب مغامرةً في خطفه الجنود الإسرائيليين. وشنت حكومات عربية عدة ممثلة بوزراء خارجيتها، كما في حالة وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل، حملة على الحزب تحمله فيها المسؤولية، وبدا لي إن هذه الحملة منظمة لتبرئة إسرائيل وعزل حزب الله بحيث تقضي إسرائيل عليه في مرحلةٍ كان المعسكر الأميركي يتقدّم في المنطقة بعد الحرب على العراق، وتضييق الخناق على سورية. وكان موقفي هذا صحيحًا. بطبيعة الحال لم أكن طرفًا في هذه المعارك العربية الداخلية، ولم أكن أرغب في أن أكون طرفًا فيها، مع ضرورة فهم أنني لا أستطيع أن أتسامى عن صراع يجري والاحتلال الإسرائيلي عنصر أساس فيه. هذا بالنسبة إلي قضية مبدئية، اذ لا يمكن أن أكون في دولة الاحتلال واعيًا لطبيعة هذه الدولة الاستعمارية ومناضلًا ضدها، ثم أقف متفرجًا او محايدًا حيال عدوانها وحربها على لبنان. وأعتقد أنني ساهمت، آنذاك، مساهمةً مهمةً في شرح موقف المقاومة عربيًا وعالميًا، وفي داخل إسرائيل. وأعتقد أن إسرائيل قرّرت، منذ ذلك الوقت، تصفية وجودي السياسي. كان الإسرائيليون منزعجين جدًا من استراتيجية التصدي للصهيونية من خلال برنامج «دولة المواطنين» وتأكيد هوية السكان الأصليين، وحاولوا التخلص مني. لكن دعم المقاومة بهذا الشكل تجاوز الخطوط الحمر كلها في نظرهم، ومنحهم وسيلة للتخلص مني بحسب تقويمهم.

كان هدف الحملة تصفية «ظاهرة عزمي بشارة» كما وصفها الإسرائيليون.

هم قالوا ذلك، وطالبوا علانية بإنهاء ما سمّوه ظاهرة عزمي بشارة، وأعتقد أنني ذهبت بعيدًا، بل أبعد من الحدود التي يمكن أن تسمح بها إسرائيل. لم يحتملوني في موضوع دولة المواطنين، لكنهم فشلوا قانونيًا وسياسيًا في تصفيتي. لم يحتملوني في موضوع الحقوق القومية الجماعية للعرب في الداخل، ومسألة هوية السكان الأصليين، لكنهم لم ينجحوا في تصفيتي بهذه الحجة. وفي حرب تحرير جنوب لبنان عام 2000 اعتبروا المشكلة معي أمنيةً بتجاوزي الحدود كلها في التضامن مع حزب الله، لكن الأمر بقي في إطار حرية التعبير في النهاية، فهو تعبير عن موقف ينطلق من حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، ومن إدانة الاحتلال الإسرائيلي للبنان. وقد كنا نوسع هامش الحرية المتاحة للتعبير عن الرأي والموقف. فكانت الدولة ونواب اليمين يطالبون بتجريم مثل هذا التعبيرات والمواقف، في حين كانت المحكمة الإسرائيلية العليا تطالب بدلائل على أن هذا الرأي يؤدي إلى مس فعلي بالأمن، كأن تشمل مواقفنا تحريضًا على العنف وحثًا عليه. ونحن لم نكن ندعو إلى العنف، بل نعبر عن رأي يقول إن الوجود الإسرائيلي إحتلال، ومن حق الشعب اللبناني مقاومته. ويمكن اعتبار انسحاب إسرائيل من لبنان انتصارًا للمقاومة، وهذا بحد ذاته وصف أو تحليل أو غيره.

أما في حرب عام 2006، وشرح موقف حزب الله، لا للرأي العام الفلسطيني وحده، بل حتى للرأي العام العربي والعالمي، فقد تجاوزتُ، في ذلك، الحدود الممكن تخيلها، خصوصًا بوجود مواقف عربية رسمية تحمِّل حزب الله المسؤولية. لا تنسَ أن هذا الموقف جاء بعد أعوام من خطبتَي في أم الفحم والقرداحة اللتين تحدثت فيهما عن المقاومة، وأن خيار المقاومة هو خيار المستقبل. وأضفت: إذا كنتم لا تريدون مواجهة إسرائيل على الحدود، انظروا إذًا ما حدث في لبنان... اعتمدوا المقاومة. وأعتقد أنني استخدمت عبارة «توسيع حيز المقاومة». وعرّضني هذا الموقف لمحاكمة طويلة[2]. غير أنني، بعد حرب عام 2006، رحت أشهد محاولات حزب الله للسيطرة على لبنان وتسخير نتائج الحرب للسيطرة على قوى سياسية عربية، وشاهدت ذلك السلوك في المؤتمر القومي العربي[3]، ومع قوى سياسية عربية، وكيف تحوّلت حرب 2006 إلى أداة للسيطرة السياسية. أنا ساهمت في توصيف جانب من حرب عام 2006 على أنه انتصار للمقاومة، ولا شك في أن إسرائيل أخفقت في حرب 2006. لكنني كنت أميز بين إفشال العدوان والانتصار على إسرائيل. كنت أعرّف الانتصار في تلك الحرب كإفشالٍ للعدوان.

ألقيت محاضرة في هذا الشأن على مدرج قاعة عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت[4].

تناقضت هذه المحاضرة في نبرتها مع لغة الدعاية عن الانتصار الإلهي. قلت إن الانتصار هنا يكمن في إفشال العدوان على لبنان، وإن حزب الله لم ينتصر على إسرائيل بشكل عام، بل أفشل العدوان على لبنان والمقاومة. وفي محاضرة أخرى قلت إن حزب الله حزب مذهبي. فاعترض بعضهم، وسألتهم علامَ يعترضون؟ الحزب نفسه في الحقيقة يعرف نفسه هكذا... إنه ملتزم مذهبًا محددًا. جاءني عدد من أعضاء الحزب وناقشوني وعاتبوني بالقول: بما أنني ألتقي أعلى مستوى عندهم، وأقول رأيي لأعلى مستوى لديهم بصراحة، أي السيد حسن نصر الله، فلماذا إذًا أحاضر علنًا وأنتقدهم علنًا؟ لاحظت أنهم لا يفهمون أنني، في النهاية، مثقف حر، ولا أقيّد نفسي بشيء، بل أقول رأيي ما دمت أرى أن هذا الرأي هو ما يجب أن يقال، ومتى يجب الصمت، ولا أقيس الأمور على متى يجب أن يقال، وأنا لا أُقيّد بهذا الشكل. في أي حال، الكلام على إفشال العدوان شيء والانتصار على إسرائيل شيء آخر. لم يتوقفوا عن الحديث عن الانتصار، وجعلوا منه انتصارًا إلهيًا. والحقيقة أن القيادات في الحزب، وكذلك مثقفيه، لم يعاتبوني.

لم تخل علاقة التحالف من نقاشات علنية. لقد أعربت عن موقفي ضد مشاركة سورية في مفاوضات شيبردزتاون في التلفزيون السوري، وانتقدت موقف المقاومة الإسلامية من حقوق الفلسطينيين في لبنان على قناة المنار. أما بالنسبة إلى سورية، فاكتشفت أن قيادتها بدأت تتغير بعد عام 2007، وأصبح الرئيس بشار الأسد أقل تواضعًا بكثير، وأصبح لديه بعض الغرور، بعدما عادت دول العالم لتنفتح عليه بعد حقبة من الحصار، بدأت غداة اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، وما عاد يستمع إلى أي نصيحة بعد عام 2007، وصار يؤمن بأن القوة تحل المشكلات كلها، وأن العالم لا يفهم إلا هذه اللغة. كما أن حزب الله أصبح يستغل نتائج حرب عام 2006 لإعادة العجلة إلى الوراء في لبنان، ليملأ هو الفراغ الذي خلّفه السوريون.

تقصد حوادث 7 أيار/مايو[5]2008؟

المشكلة هي مع الحركات الشمولية، وأقصد بالشمولية تلك التي تجمع السياسة والمجتمع والدين وغيره في عقيدة واحدة تتبنى موقفًا من جميع جوانب حياة الإنسان، بما في ذلك حياة أعضائها، ويتحول فيها حامل العقيدة (الحركة أو الحزب أو التنظيم) من وسيلة إلى هدف، ويُخضع لهذا الهدف كل شيء. هذه الحركات الشمولية لا تستطيع أن تختلف مع أحد في إطار تحالف إلا إذا كانت ضعيفة. أما إذا قويت فهي تطوِّر علاقتها بالآخرين، لا بوصفهم حلفاء بل أدوات؛ فهم إما أدوات أو خصوم، ولا معنى لحلفاء عندها. التحالف يكون دائمًا موقتًا ومرحليًا ولشراء الوقت في حالة الضعف. وسرعان ما يجري الانقلاب عليه عند تغيير موازين القوى.

حتى الدول تفعل الأمر نفسه.

بالتأكيد. الحركات والدول الشمولية إذا كنت نصيرًا لها ترفعك إلى الأعلى، أما إذا اختلفت معها في أصغر رأي، فلا يمكن أن تتحمل أي تنوع من ضمن التحالف. بدأت ألاحظ هذا مبكرًا، وأشعر أن لدى حزب الله رغبة في السيطرة على الأمور، ومحاولة التدخل في أمورٍ يُفترض ألا يتدخل فيها. فبدأت أحاول الابتعاد قليلًا.

تتذكر أننا حاولنا أن نؤسس هيئةً سياسيةً للحفاظ على الثوابت الفلسطينية، وكنت مهتمًا بذلك بعد خروجي إلى المنفى، ورغبت في أن نقوم بدور فلسطيني ما، كتجميع القوى الفلسطينية الشابة التي لا تنتمي إلى فصائل، والمتمسكة بالثوابت الوطنية[6]. والحقيقة أن معظم الفصائل الفلسطينية في دمشق رحّبت بالمبادرة. لكني لاحظت فورًا أن الاستخبارات السورية تريد أن تمارس هيمنةً مباشرة عليها، فانسحبت بسرعة. أنا لا أقبل بهذا التعامل على الإطلاق. كنت أجتمع إلى الرئيس السوري بشار الأسد وإلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وأتبادل الرأي معهما. لكن، لم أقبل أن يكون التعامل معي من منطلق الاستفادة الأداتية. وصار واضحًا لي أن من الصعب الحفاظ على هذه المقاربة. وحين لاحظت أن الآخرين لا يقدّرون معنى حالة مثقف له وضع مجتمعي خاص وثقافة مستقلة، كنت مضطرًا إلى وضع حدود واضحة بنفسي. واستمرّت العلاقات بيننا على أساس هذه الحدود، وكانت طيبةً في الحقيقة، وكانت تتخللها نقاشات.

لاحقًا، عندما نشبت الثورة في سورية ما عاد الخلاف ممكنًا مع الحفاظ على أي علاقة في الوقت نفسه، لأن المسألة هنا لا تحتمل التردّد. الموقف مع المقاومة، ووقوفي إلى جانبها كانا تحديًا لإسرائيل، وتحديًا لواقعي السياسي والاجتماعي في بعض الحالات، وحتى لمحيطي الاجتماعي والسياسي. والوقوف مع المقاومة وقوف مع مبدأ، حتى لو خالف هذا المبدأ الانتماءات التي أنتمي إليها. كنت مع مبدأ حق الشعوب في التحرّر من الاحتلال، ولا سيما أن شعب لبنان شقيق، ويتخذ أنصار المقاومة موقفًا ممتازًا من قضية فلسطين. المنطق نفسه هو الذي حكم موقفي من الشعب السوري. إنه الموقف من الظلم والفساد والطغيان. الموقف المبدئي هو أن تكون مخلصًا للمبدأ نفسه، أي للحرية. في حين أن ما يريدونه هم ألا تخلص للمبدأ، بل تخلص لهم. وهذا هو الإخلاص في نظرهم. وأنا لا أعتبر ذلك إخلاصًا، بل خيانةً للمبدأ والقيم الأخلاقية التي من المفترض أن تكون ملزمة. والقيمة المبدئية تقاس بتعاليها على الانتماءات. المبدأ يتحدّى الانتماءات، ويدفعك إلى أن تقف مع الحق، بغض النظر عن الظرف والمكان والزمان. فما بالك بشعبٍ عربيّ شقيقٍ يتعرّض للقتل؟

هنا، يُطرح السؤال: حسنًا، ما الذي تغير؟ أنت كنت صديقًا للنظام السوري وتزور سورية باستمرار. فما الذي تغير؟ وأجيب: كل شيء تغير، فقط المبدأ والقيم لم تتغير. ما الذي لم يتغير؟ دولة عربية يحكمها نظام ديكتاتوري وقفت إلى جانبها في دعم المقاومة، وفي رفض اتفاقات سلام غير عادلة، وفي التواصل مع الشعب السوري والشعب الفلسطيني الذي كان يعيش في سورية. آنذاك، أصبح نظامها يطلق النار على شعبه، ويقصفه بكل الوسائل المتاحة، بعد أن عجز عن تلبية مطالبه واحتواء حركاته الاحتجاجية. في حينه، كان يجب أن أدخل إلى سورية من خلال مستوى رسمي. وأنا لا يمكن أن أقوم مقام الشعب السوري في الثورة، وفي الوقت ذاته، لا أمتدح النظام في تعامله مع الشعب السوري. لكن، عندما تحرك الشعب السوري وانتفض، وكان تحركه سلميًا ومدنيًا صرفًا ويحمل مطالب مشروعة تمامًا ما عاد لدي حجة غياب؛ حجة الغياب تُستخدم لعدم اتخاذ أي موقف. الشعب السوري الآن خرج على الحاكم، وعلي أن أتخذ موقفًا واضحًا، خصوصًا أنني كنت أظهر يوميًا في وسائل الإعلام للتضامن مع الشعبين المصري والتونسي. فهل أقف مع حرية الشعبين المصري والتونسي، وأرفضها في حالة الشعب السوري؟

ميزت من حيث التحليل بين أوضاع سورية واليمن من جهة، ومصر وتونس من جهة أخرى. وتكلمت على خطر الانقسامات العمودية الهوياتية في سورية التي تتفاعل مع الانقسامات في لبنان والعراق. وطالبت النظام السوري بالإصلاح، والتوفيق بين دعم المقاومة وحقوق المواطن، وإلا فسوف تُقاد سورية إلى المجهول، وإلى الفوضى الإقليمية. ومن يريد التأكد مما أقوله يمكنه الرجوع إلى مقابلاتي في الصحافة والتلفزة. وهناك من طرف الثورة من وجه إلي نقدًا مطالبًا أن أقف مع الثورة من دون قيد أو شرط، وألا أمنح النظام السوري نصائح، قائلين: وما الفارق بين تونس ومصر وسورية؟ وكنت أجيب بأن لا فارق بينها في بنية النظام. لكن، ثمة فارق في بنية الدولة والمجتمع. ثمة خطر في نشوب حرب أهلية. لكن، لا أحد يريد أن يتذكّر ذلك الآن. فثمة فسطاطان في جميع العقول التي ما عادت عقولًا في زمن الاحتراب الأهلي، بل صارت عقليات.

كانوا في النظام السوري وفي حزب الله يمتدحون ظهوري الإعلامي تأييدًا للشعب المصري. ثم فجأة بات لزامًا عليّ أن أتنكّر لهذا الموقف، وأن أقف ضد الشعب السوري. ولمزيد من العبث صاروا، بأثر رجعي، يعتبرون الثورة المصرية نفسها مؤامرةً، وهي التي كانوا يمتدحونها قبل فترة وجيزة. وما كان في إمكانهم أن يحافظوا على هذا التناقض. أي إنهم يمتدحونك على موقفك من الثورة المصرية التي كانوا معها، ثم يذمّون الثورة السورية. وللخروج من هذا المأزق، قاموا بعملية إسقاط بمفعول رجعي، وجعلوا الثورات كلها مؤامرة، وذلك لتحقيق الانسجام في مواقفهم. إنهم يرغبون في الانسجام في موقفهم، لكن لا يريدون الانسجام في موقفك. أي إن عليك أن تتناقض مع موقفك، أي أن تكون مع الثورة المصرية وضد الثورة السورية. وكان ذلك أمرًا مضحكًا. وطبعًا أفلتت الأمور تمامًا من المنطق، عندما بدأوا باتهام الناس بالخيانة وبالعمالة لإسرائيل. وأعتقد الآن أن أكثر المواقف خيانةً هي إبادة الشعب السوري، واستخدام القضية الفلسطينية أداة لأغراض لا علاقة لها بها، مثل الدفاع عن المشاهد الشيعية بما تحتوي من مضمون طائفي في رحى الصراع السوري، والحفاظ على الحكم وتبرير الاستبداد. وأعتقد فعلًا أن هذا الموقف غير وطني حقًا، لأن لا ولاء فيه للوطن، بل فيه ولاءاتٌ أخرى، أي ولاءات للطائفة وللسلطة. وهذه الولاءات تجعلهم يتحالفون، أحيانًا، حتى مع عملاء إسرائيل. إنهم مستعدون لأي شيء. ولذلك، أعتبر موقفنا هو القومي والوطني والديمقراطي، وموقفهم هو ضد شعبهم نفسه وضد فلسطين. ومع ذلك فإن التطمينات الضمنية التي أرسلها ناطقون شبه رسميين باسم النظام السوري إلى إسرائيل بأنهم هم من يضمنوا أمنها لم تلقَ من إسرائيل إلا الاحتقار، بل قامت بالاعتداء على الأراضي السورية وقصفت مواقع الجيش السوري، وفتحت حدودها لمعالجة جرحى الجيش الحر في المنطقة لكسب ثقتهم بهدف استخدامهم في ما بعد. كما كان لها دور واضح في دعم بعض عناصر الفصائل في جبهة القنيطرة الذين تورطوا بالتعاون مع الظالم ضد الأظلم ضمن منطق إسلاموي لا علاقة له بمنطق الوطنية، أو ليأسهم، أو للضرورة مثلما لجأ عشرات من مناضلي فتح في أيلول الأسود إلى إسرائيل... وهلم جرّا. لقد ميّزت في ظهوري الإعلامي بوضوح بين السياسة والسيادة. ولا يهتم النظام بالتنسيق القائم بين حليفته روسيا وإسرائيل، بما في ذلك التنسيق في الأجواء السورية، وفي أمور أخرى بالتأكيد. المهم، نتيجة تمسك الأسد بالسلطة بغض النظر عن الثمن، نشأت في معارضة النظام مسائل سيادية لسببين: أولًا، إنه يهدم الوطن ومناطقه المأهولة ويدمرها؛ وثانيًا، يضع سورية تحت هيمنة دول أجنبية مثل إيران وروسيا.

المضحك في إعادة تقويم الأمور بأثر رجعي، ومن أجل أن يبرروا حملة القمع والقتل الوحشي للشعب السوري يصبح تأسيس مراكز بحوث وجامعات وعقد مؤتمرات أكاديمية في العلوم الاجتماعية بدعم من مؤسسات عدة، ومنها دولة قطر، هو أننا مدعومون من البترودولار. لسنا نحن الذين يدعمنا البترودولار، بل هم الذي اعتاشوا عليه عقودًا، وكانت تذهب إليهم الدولارات بالمحافظ من السعودية والكويت وقطر وغيرها. وكانوا مستعدين حتى لبيع تدمر للبترودولار. هذه حقيقة وليست رواية. فمصيبة سورية في عهد بشار الأسد هو أن رجال «البيزنس» بالمعنى المرذول كانوا نافذين حقًا، وكان هؤلاء متكاملين حقيقة مع رأسمال البترودولار، وكانوا يعدون الدراسات والموافقات الرسمية لهذا الرأسمال على أعلى مستوى. وكان ذلك شيئًا فظيعًا تخطت فيه سورية في عهد بشار الأسد، وفي كثير من الجوانب بعد عام 2006، ما كان الوضع عليه في نظام مبارك، وهو ما وصفه الباحث جمال باروت بنظام «الذئاب الشابة»، وحدده بنظام «المئة الكبار»، وذلك في كتابه العقد الأخير في تاريخ سورية الذي صدر عن المركز العربي للأبحاث.

نحن نؤسّس مراكز بحوث، تدعمها مؤسسات عدة، منها دولة قطر. أما هم فيعيشون على البترودولار الإيراني والروسي. إنه بترودولار أليس كذلك؟ وإلا فماذا يبيعون في إيران؟ وما هو المكوّن الأساس للناتج القومي الروسي؟ وإمعانًا في المهزلة فهل قطر كانت تنتج الشوكولاتة أو الفستق الحلبي خلال حرب 2006 وبعدها عندما كانت تُثمَّن مواقفها وتلحن الأغاني والأهازيج لتحية قادتها، وتخلع عليهم الألقاب والأوصاف؟ كان مديح قطر في تلك المرحلة أيضًا مبالغًا فيه، وقد انتقدت هذه المبالغة.

لمناسبة الحديث عن حزب الله أريد أن أعود قليلًا إلى وسائل النضال. قلّما لجأ حزب الله إلى العمليات الانتحارية في حقبة المقاومة في الجنوب اللبناني. بينما لجأ اليساريون، كالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي والبعثيين إلى هذه الطريقة، وأرسلوا إلى الجنوب المحتل من يستشهد. والمعلوم أن العمليات الانتحارية لم تبدأ مع حزب الله، بل بدأت قبل ذلك. فقد بدأتها المقاومة الفلسطينية مثل عمليات كريات شمونة أو الخالصة، ومعالوت (1974) وفندق سافوي (1975) وجمال عبد الناصر في عام 1979 (سمير القنطار) والطائرة الشراعية في عام 1987 (خالد أكر). وسبق أن كتبتَ عن هذا الموضوع والعقلية الكامنة خلفه. ما هو تقويمك لهذا الضرب من العمل العسكري الذي تكرّر بقوة في الانتفاضة الثانية؟

من حيث المبدأ، يفترض أن على المقاوم أن يتجه نحو إلحاق الضرر بالعدو، وجعل الاحتلال مكلفًا. هذا هو هدف المقاومة، أي جعل الاحتلال مكلفًا للمحتل، مع محاولة التقليل من خسائر المقاومة نفسها. لكن بعض القوى، حتى اليسارية في بعض الظروف وفي حالاتٍ معينة، قامت بعمليات استشهادية، لأنها اعتقدت أن من الممكن، بهذه الطريقة، إلحاق أكبر ضرر بالعدو من خلال الاقتراب المباشر منه، جرّاء عدم توافر أسلحة موجهة بعيدة المدى. وفي غياب ذلك، يصبح الاقتراب جسديًا من جيش الاحتلال وإلحاق الضرر به هو الطريق الوحيد كي يشعر المجتمع وصانع القرار بفداحة الثمن. من الممكن مناقشة هذا الموضوع من زوايا مختلفة، لكن هذا هو منطقه. وليس بالضرورة أن يكون منطقه دينيًا غيبيًا، لأن يساريين وقوميين وإسلاميين، ومتدينين وغير متدينين، استخدموا هذه الوسيلة. هذا أمر، والدافع الأصلي للاستشهاد أمر مختلف. فهو قد يكون في البداية رمزيًا، أي على غرار تقديس الشهداء وتقديرهم وتقدير مكانتهم في الثقافة السياسية. لكن، في حالة الرموز عمومًا، تنقلب الأمور لدى فئات معينة من الشعب المعرَّضة لهذه الرموز، بحيث تصبح الشهادة هي الهدف، أو تصبح التضحية هي الهدف، أو يصبح السجن هو الهدف، من دون تقويم النتائج، فتقاس إنجازات فصيلٍ معين بعدد السجناء أو عدد الشهداء لديه. وهذه «استراتيجيا» الهزيمة الذاتية.

في مراحل النضال الوطني الهادف المَقود باستراتيجيا وجدول أعمال، يحاول قادة الحركات الوطنية تجنب السجن، أو عدم الاعتراف في أثناء التحقيق، لا على أنفسهم ولا على أحد. فكان الواحد منهم يتجنب السجن، أو يهرب ويختفي، وحين يمسكون به يتعرّض للتعذيب ولا يعترف. هذا ما كان يحسب بطولةً وصمودًا. فإذا اعترف عن نفسه، أو عن رفاقه، فإن هذا الشخص يُنبذ، حتى في داخل السجن، ويعتبر جبانًا، أو يُنتقد على الأقل. الآن، أصبح الأمر غير ذلك، بل حتى معكوسًا. لا يهم كيف نال السجين عشرة أعوام سجنًا أو خمس عشرة عامًا، ومن غير المهم هل اعترف وسلم آخرين، وهل آذى العدو أم لم يؤذه، اعترف أو لم يعترف، وشى بآخرين أم لا، المهم أنه دخل السجن، ويصبح له احترام وتقدير لأنه دخل السجن. هذه نفسية نضال وتصدٍ في حالة الحث على الصمود، وتجاوز الخوف من السجن، ورفع المعنويات بحق؛ لكنها قد تتحول إلى نفسية حركة سياسية مكسورة أيضًا، لا يمكنها أن تنتصر، لأن لديها تقديس للسجن والتضحية بما هي كذلك. ويجب الحذر من مثل هذا التحول. ومعظم السجناء والمعتقلين يشعر بذلك ولا يريده.

من يُرد النضال يجب أن يتملص من السجن، وأن يتجنّبه. وإذا سجن، فعليه ألا يعترف ليستمر إخوانه في النضال، وعليه عدم كشف الخلايا أو التنظيم. لكن ليس كل إنسان قادرًا على الصمود أمام التعذيب، ولا تجوز المزايدة في هذا الأمر إطلاقًا. المشكلة هي مع من يقول كل ما عنده قبل أن يبدأ المحققون بطرح الأسئلة، أو يثرثر ويتكلم لأغراض التباهي مع أي كان في غياب أجواء نضالية منضبطة.

إن ما أَسطَرَ نيلسون مانديلا هو حاجات الحركة إلى رمز، لا نضاله[7]. لم يسجن مانديلا بإرادته، بل كان هاربًا، وكان في طريقه إلى الخروج من جنوب أفريقيا إلى المنفى. وبقي طوال سنوات سجنه صامدًا لكنه كان مشلول الإرادة أيضًا. ومن قام بالنضال والتنظيم هم رفاقه في الخارج في العمل السري وفي المنافي. نحن نأخذ من تاريخ مانديلا فترة سجنه وحدها، مع أنه في فترة سجنه لم يكن فاعلًا على الإطلاق. المهم هو موقفه الذي يجب أن يكون مقدّرًا خصوصًا أنه صمد في المفاوضات، ولم يغير مواقفه، وأصر على تصفية الأبارتهايد.

أعتقد أن الرموز عندما تسيطر على الثقافة والفكر تُحدث ظواهر تقديسية، فالقضية ليست العملية الانتحارية بحد ذاتها، لكن الثقافة التي تقدّس الاستشهاد، وتقدّس الذهاب إلى السجن. وحين تهيمن هذه الثقافة الغريبة لا يُقاس مدى التأثير بالعدالة الكامنة في القضية، ولا يُقاس العمل السياسي بإنجازاته، بل تقاس القضية بمدى المعاناة. فكلما عانيت أكثر تكون قضيتك أكثر عدالةً. وهكذا يُقاس العمل السياسي بمعايير مقلوبة، أي بمقدار التضحيات، لا بالإنجازات. وتظهر قواعد مفاضلة بين التيارات السياسية لا تجري بناءً على الإنجازات المرتبطة بتحقيق استراتيجيات العمل الوطني وأهدافه، بل بعدد الضحايا والشهداء، أو بعدد المعتقلين والمساجين، فيفاخر تيار سياسي بعدد شهدائه ومعتقليه من دون أن تكون هذه المفاخرة مرتبطة بمدى تحقيقه أهدافه وكلفة ذلك على العدو.

ينشأ جمهور عند الأحزاب والقوى السياسية (وهي لا تمثل أغلبية الشعب) يقدر القيادة جراء التضحية، لا جراء النضال والوعي والنجاعة والإنجازات. فالتضحية، ولو من دون هدفٍ، تعتبر عنده أهم، والسجن هدف قائم في ذاته. حتى عدالة القضية تصبح مرهونةً بذلك، فالقضية لا تقاس بعدالتها الجوهرية، بل بالمعاناة التي تسببها، فكلما عانيت أكثر تكون القضية عادلة أكثر. ولا يقاس العمل السياسي بالإنجازات، بل بالتضحيات. وأعتقد أن هذه هي حالة حركاتٍ هزيمتها محتومة.

أود أن أُضيف أن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها مرّت بمرحلةٍ كان الاعتراف في السجن هو العيب الأكبر. كان المناضلون يطوّرون أساليب العمل السري للتهرّب من السجن، وإذا اعتقلوا يتعرّضون للتعذيب ولا يعترفون.

أما العمليات الفلسطينية الفدائية شبه الانتحارية التي وقعت عبر الحدود اللبنانية، فلم يكن هدفها إيقاع الهزيمة بإسرائيل، أو الانتصار عليها، بل إثبات الوجود، وتسجيل نقاط لهذا الفصيل أو ذاك من خلال إلحاق الأذى بإسرائيل. لكن العمليات لم تكن محكومة باستراتيجيا تهدف للانتصار على إسرائيل. هذه مشكلتها، وليس القضية أنها انتحارية، أو غير انتحارية مع أن فيها قدرٌ من الأمل بالحياة. وفي فلسطين حاليًا يجري، عند قسم من الجمهور، تقديس السجن والشهادة، من دون النظر في الاعتبارات التي ذكرتها أعلاه، كأنها أهدافٌ قائمة في ذاتها. ولا توجد توعيةٌ في هذا الشأن. أما الجمهور الواسع، فينفر من مثل هذه الثقافة التي تتحوّل إلى ثقافةٍ فرعية. وفي ضوء سيادة هذه المعايير ينظر إليها في أحيان كثيرة على أنها أعمال عدمية.



[1] ظهرت منظمة العمل الشيوعي في نيسان/أبريل 1971 من اندماج منظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي ضمت مجموعة من القوميين العرب الذين تحولوا من الناصرية إلى الماركسية وفي مقدمهم محسن إبراهيم ومحمد كشلي، وحركة لبنان الاشتراكي، وهي مجموعة من البعثيين المتحولين إلى الماركسية الذين أسسوا هذه الحركة في عام 1964، وكان من بينهم فواز طرابلسي ووضاح شرارة ومحمود سويد ووداد شختورة وأحمد بيضون. ولم يتجاوز عدد أعضاء حركة لبنان الاشتراكي أربعين عضوًا، في حين لم يتجاوز عدد أعضاء منظمة الاشتراكيين اللبنانيين 250 عضوًا في مرحلة التأسيس. وفي عام 1973 وقع الانشقاق الأول، فخرجت مجموعة لبنان الاشتراكي ثم تبعها الماويون، وبقي آخرون تابعوا العمل تحت رئاسة الأمين العام محسن إبراهيم.

 

[2] بدأت المسألة في الخطبة التي ألقاها عزمي بشارة في بلدة أم الفحم في 5 حزيران/يونيو 2000، وأشار فيها إلى معركة تحرير لبنان الجنوبي التي انتهت بالانسحاب الاسرائيلي الذليل في 25 أيار/مايو 2000. وفي 10 حزيران/يونيو 2001 ألقى بشارة خطبة في بلدة القرداحة السورية باسم فلسطينيي 1948 في الذكرى الأولى لوفاة الرئيس حافظ الأسد طالب فيها بأن تعتمد الدولة السورية طريقة المقاومة. وعندما عاد إلى فلسطين في الثامن عشر من الشهر نفسه استقبله حشد من الناس من معبر وادي الأردن إلى الناصرة. وهناك عقد مؤتمرًا صحافيًا قال فيه: «لماذا أنتم متفاجئون؟ أنا لست وطنيًا إسرائيليًا. أنا وطني فلسطيني. وسورية في نظر الاسرائيليين دولة معادية. أما أنا فلا استطيع النظر إلى سورية بهذا المنظار، وحتى لو قاموا بصلبي لا يمكنني اعتبار سورية وياسر عرفات والقيادة الفلسطينية أعداء». واستجوبته الشرطة الاسرائيلية في 27 تموز/يوليو من العام نفسه في شأن خطبته في القرداحة، وفي التاسع من آب/أغسطس قدم إلياكيم روبنشتاين لائحتي إتهام ضد عزمي بشارة؛ واحدة على خلفية تصريحاته في أم الفحم والقرداحة، والثانية على خلفية تنظيم زيارات للفلسطينيين إلى سورية. وفي 29 تشرين الأول/أكتوبر 2001 وافقت لجنة الكنيست على رفع الحصانة جزئيًا عنه، وأقرّ الكنيست رفع الحصانة في السابع من الشهر نفسه. ثم بدأت محاكمته في الناصرة في 27 شباط/فبراير 2002. وفي النهاية أسقطت السلطات القضائية التهم عنه في الأول من نيسان/أبريل 2003، وبدأت معركة جديدة ضده.

 

[3] اكتشف ذلك في دورة صنعاء للمؤتمر القومي العربي في عام 2008. وقد ترأس هذه الدورة الدكتور عزمي بشارة بنفسه.

 

[4] في هذه المحاضرة (15 أيار/مايو 2009) دحض تبرير غياب الديمقراطية في العالم العربي بنشوء القضية الفلسطينية والمواجهة مع إسرائيل وقال: «إن أكثر طرف متصل بالمواجهة والحرب والصراع هو إسرائيل، فلماذا تمكنت إسرائيل من تأسيس ديمقراطية من طراز خاص، وطوّرت هوية ولغة، وأقامت مؤسسات واقتصادًا مزدهرًا، بينما فشل العرب في ذلك ورزحنا تحت الاستبداد؟».

 

[5] في 5 أيار/ مايو 2008 اتخذت الحكومة اللبنانية قرارًا بإلغاء شبكة الهاتف الأرضي الخاصة بحزب الله. وفسر الحزب هذا القرار بأنه يهدف إلى محاصرة المقاومة والتضييق عليها. وأمام عدم إمكان الاتفاق على مخرج من هذه المشكلة، فضلًا عن مشكلة أخرى هي تعيين رئيس لجهاز أمن المطار، اجتاح مقاتلو حزب الله وبعض المجموعات المسلحة من حركة أمل مدينة بيروت في 7 أيار/مايو 2008، ووقعت اشتباكات بالسلاح في عدد من مناطق العاصمة اللبنانية، وامتدت إلى مدينة الشويفات وهي أحد معاقل الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرئسه وليد جنبلاط. وخلفت الاشتباكات كثيرًا من القتلى والجرحى، وندوبًا في العلاقات بين حزب الله وأهالي بيروت. وتحوّل  السابع من أيار/ مايو 2008 إلى ذكرى مؤلمة جدًا لسكان بيروت، ووصل التوتر المذهبي بين السُنة والشيعة، جراء ذلك، إلى ذروته. ومنذ ذلك اليوم راج الكلام على المظلومية السنية في مواجهة تسلط حزب الله، واستبداد الشيعة بالسنة.

 

[6] عقدت هذه الهيئة مؤتمرًا في فندق البريستول في بيروت في 24/2/2010.

 

[7] رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي الذي قاد نضال السود في جنوب أفريقيا في سبيل الحرية والمساواة وإنهاء التمييز العنصري. سُجن وأطلق في 11 شباط/فبراير 1990 بعد عشرة آلاف يوم من الاعتقال، وانتخب رئيسًا لبلاده في 9 أيار/مايو 1994.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها