الأربعاء 2017/02/15

آخر تحديث: 08:32 (بيروت)

تركيا بين نارين

الأربعاء 2017/02/15
increase حجم الخط decrease

لا يمكن فهم التدخل التركي في سوريا دون ربطه بمفاعيل وارتدادات الصراع في سوريا والعراق وانخراط قوى إقليمية ودولية فيهما وانعكاس ذلك على المصالح الوطنية التركية. فتركيا التي سجلت، قبل الثورة السورية بسنوات، نقاطا على حساب إيران عبر الانفتاح على النظام وعقد اتفاقات أمنية وتجارية كبيرة معه، وسعت لاستكمال عملية إخراج إيران منها إلى إقناع النظام بقبول مطالب الإصلاح التي رفعتها التظاهرات التي خرجت في معظم المدن والبلدات السورية، وقبول مشاركة المعارضة السورية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، في السلطة، دفعها رفض النظام لاقتراحها وتبنيه الخيار الإيراني بسحق الثورة الى دعم المعارضة وتبني خيارها في إسقاط النظام.

جاء دخول إيران المباشر على خط "الصراع في سوريا" وإرسالها المستشارين والأسلحة والذخائر والأموال والمتطوعين للقتال الى جانب النظام فعّقد الصراع وفتح مرحلة جديدة فيه، مرحلة "الصراع على سوريا"، أطرافه النظام وروسيا والصين وإيران وميليشياتها الشيعية من جهة والمعارضة وداعميها بالأموال والأسلحة، الأتراك والخليجيين بشكل رئيسي، وأميركا والدول الأوروبية بالسياسة مع القليل من الأموال والأسلحة من جهة ثانية. وقد أثارت تطورات الصراع، وخاصة توسع الانخراط الإيراني فيه، وبروز "حزب الاتحاد الديمقراطي"(الكردي)، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وجناحه العسكري "وحدات حماية الشعب" و "وحدات حماية المرأة" وسيطرته على مساحات شاسعة على الحدود السورية التركية وتشكيله الإدارة الذاتية بكانتوناتها الثلاث، أثارت مخاوف تركيا من قيام كيان كردي سيصبح بالضرورة ملجأ للحزب الأم، الذي جدد صراعه المسلح ضد السلطة التركية بعد انهيار عملية السلام بينهما.

مع تصاعد حدة "الصراع على سوريا" وانخراط روسيا فيه مباشرة خسرت تركيا نفوذها هناك وتقلّص دورها الى حدود الصفر بعد اصطدامها بالروس، بعد إسقاط القاذفة الروسية من قبل المقاتلات التركية، وخلافها مع الإدارة الأميركية على خلفية اختيارها لـ "وحدات حماية الشعب" لمحاربة "داعش" وتزويدها لها بالأسلحة والذخائر، وإرسال مستشارين أميركيين للتدريب والمساعدة في التخطيط للمعارك، ناهيك عن إقامتها بنية تحتية عسكرية في مناطق سيطرتها(مطارات، مستودعات أسلحة، منازل لسكن الجنود)، ما يشي بتبنيها مشروع الحزب في إقامة كيان كردي وحمايته، وتحقيقها(الوحدات) انتصارات على "داعش" وتحريرها أجزاء واسعة من أراضي محافظات الحسكة والرقة وحلب وسعيها لتوسيع سيطرتها على الأراضي التي تفصل بين عين العرب/كوباني وعفرين لوصل الكانتونين مع بعضهما البعض ما ينعكس سلبا على مصالح تركيا، خاصة لجهة عزلها عن الدول العربية بقطع التواصل الجغرافي معها بإقامة كيان كردي على طول الحدود مع سوريا. في هذا السياق جاء التدخل التركي المباشر الذي جرى بعد انعطافة سياسية كبيرة بدأت بالاعتذار لروسيا عن إسقاط القاذفة والاتفاق معها على عملية "درع الفرات" وحدودها حتى تقطع الطريق على عملية الوصل المشار اليها. وقد دفعت ثمنا لمد حدود سيطرتها داخل الأراضي السورية الى مسافة 45 كيلومترا وبعرض 100 كيلومتر، من جرابلس الى إعزاز  والباب ومنبج، وربما الرقة في مرحلة لاحقة، من حساب المعارضة السورية وفصائلها المسلحة بالموافقة على تسليم شرق حلب للنظام.

لا تكمن المخاوف والهواجس التركية من الدور الإيراني في سوريا فقط بل وتمتد الى البلد المجاور: العراق، حيث نجحت إيران في شرعنة الحشد الشعبي، الذي تديره تدريبا وتسليحا وتمويلا ويتحرك بأوامرها، وزجت به في المعارك ضد "داعش" في الموصل ضمن تصور بالسيطرة على قضاء تلعفر لتأمين طريق بري يصل إيران بلبنان عبر العراق وسوريا، وتنسيقها مع  حزب العمال الكردستاني، الذي تدعمه بالمال والسلاح، الذي أقام بنية تحتية في منطقة سنجار، بذريعة حماية الايزيديين من "داعش"، وتوسع تعاونها معه ليشمل فرعه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي) في سوريا، الذي أرسل قوات منه الى منطقة الموصل تحت دعوى محاربة "داعش"، هذا مع حرمانها هي(تركيا) من المشاركة في معركة تحرير الموصل.

قاد تحرك تركيا ضد "داعش" في سوريا والعراق، وتجدد المواجهة المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، الى تلقيها ضربات موجعة من "داعش" و"الحزب" عبر عمليات تفجير وقتل جماعي داخل أراضيها، ما دفعها أكثر الى التنسيق مع روسيا، التي باتت تطوقها من أكثر من موقع(روسيا نفسها وأرمينيا وأذربيجان وسوريا وإيران)، وتناسي أطماعها في الأراضي التركية، لها مطالب قديمة بالمضايق (البسفور والدردنيل) واستنبول، وتشاركت معها في إدارة عملية مفاوضات بين النظام السوري والمعارضة بشروط الأخيرة،  شروط أقرب الى تحقيق مطالب النظام منها الى مطالب المعارضة، في محاولة لتطويق التحرك الإيراني وإضعاف مفاعيله القريبة وتداعياته البعيدة دون تحقيق أنجاز مناسب في ضوء حجم الحضور الإيراني على الأرض وعدم تخلي روسيا عن كل أوراقها لتركيا.

تزامن ذلك مع حدثين داخليين الأول: الانقلاب الفاشل وتبعاته التي تسببت بخلاف مع الاتحاد الأوروبي على خلفية حملة "التطهير" التي قامت بها السلطات التركية ضد الضباط وصف الضباط والجنود، والصحفيين ورجال الشرطة والقضاء ورجال التعليم في المدارس والجامعات تحت ذريعة محاربة جماعة "الخدمة" أنصار فتح الله غولن، بفصلهم من الخدمة وإحالتهم الى القضاء، ما انعكس سلبا على الاقتصاد التركي، أيقونة حزب العدالة والتنمية، وقاد الى انهيار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، والثاني سعي الرئيس التركي وراء تحويل النظام البرلماني الى نظام رئاسي، ما أضطره الى التحالف مع الحزب القومي اليميني ودفعه الى التصعيد أكثر مع الأحزاب والناشطين الكرد.

تركيا الآن بين نارين، نار إيران التي تعمل على السيطرة على دول المشرق العربي عبر تفكيك عراها الوطنية واللعب بتركيبتها السكانية، الدينية والمذهبية، وتحويلها الى دول فاشلة بما يسمح لميليشيات تابعة لها فرض أجندتها وتكريس وحماية المصالح والنفوذ الإيرانيين، كما هو الحال مع حزب الله في لبنان، ولعبها داخل تركيا ذاتها عبر دعم حزب العمال الكردستاني وحركات دينية ويسارية معارضة لتأجيج الخلافات والانقسامات المذهبية، ونار العمليات الإرهابية وانعكاسها الخطير على الأمن والاستقرار الداخلي وعلى الاقتصاد بخاصة، لان معظم الانجازات الايجابية التي حققها الاقتصاد التركي مرتبطة بالسياحة والاستثمارات الخارجية التي لا يمكن أن تتعايش مع عدم الاستقرار، ناهيك عن توتر العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي وانخراط الحكومة التركية في سجال علني مقلق معه حول المعاهدات الدولية والحدود والتاريخ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب