الأربعاء 2017/02/01

آخر تحديث: 06:35 (بيروت)

الدستور القاتل

الأربعاء 2017/02/01
increase حجم الخط decrease

انطوت مسودة الدستور، التي كتبها خبراء روس لسوريا (في تناقض صارخ مع الأعراف الدولية، التي استقرت على اعتبار وضع دستور لبلد ما حقاً سيادياً لشعب ذلك البلد) ووزعتها الخارجية الروسية على شخصيات من المعارضة السورية مع العمل من أجل وضعها على جدول أعمال اجتماع جنيف الذي دعت الأمم المتحدة إليه لمناقشتها وتبنيها، كاشفة عن أولويات تصورها للحل السياسي للصراع في سوريا وعليها، وعن سعيها للالتفاف على مضامين القرارات الدولية ذات الصلة والتي تقضي بمناقشة الانتقال السياسي بتشكيل حكومة تمثيلية وغير طائفية تضع دستورا وتجري انتخابات، انطوت على تشكيل كيان سياسي هجين بصياغة مواد متعارضة تحدد صلاحيات ومسؤوليات متداخلة يمكن أن تشل الحكومة وتقيد حركتها، ما جعلها وصفة لحياة سياسية غير مستقرة وقابلة للانفجار في أية لحظة.

أبقت مسودة الدستور على النظام الرئاسي ومنحت الرئيس صلاحيات واسعة وأساسية (ضامن الاستقلال وحامي وحدة وسلامة البلاد، تسمية رئيس الوزراء ونوابه، والوزراء ونوابهم، وقبول استقالتهم، وإعفاؤهم من مناصبهم، القائد الأعلى للقوات المسلحة والوحدات المسلحة الأخرى، إحالة رئيس الوزراء والوزراء الى المحكمة في حال ارتكابهم جرائم خلال توليهم مناصبهم، اقتراح تعديل الدستور، تسوية شؤون الجنسية، منح حق اللجوء السياسي، منح الجوائز الوطنية، منح رتب الشرف، تعيين الرتب العسكرية العليا والخاصة، منح العفو، إصدار المراسيم والقرارات والأوامر، عقد المعاهدات والاتفاقات الدولية، اعتماد السفراء السوريين، قبول اعتماد السفراء الأجانب وتسلم أوراق اعتمادهم، الدعوة الى الاستفتاء العام، التعبئة العامة لمواجهة عدوان خارجي، إعلان حالة الطوارئ ... الخ- المواد 55- 60) وحاولت تمويه طابعه بإعطاء صلاحيات مماثلة لرئيس الوزراء و"جمعية الشعب"(تمثل الشعب السوري بأكمله) و"جمعية المناطق"(تمثل الوحدات الإدارية)، لكن دون أن تسحب هذه الصلاحيات من رئيس الجمهورية، ما خلق حالة تداخل وتضارب في الصلاحيات سيترتب عليها صراع على هذه الصلاحيات وشل النظام السياسي. وقضت بقيام برلمانين متوازيين الأول تحت اسم "جمعية الشعب" والثاني تحت اسم "جمعية المناطق" وحددت لكل منهما صلاحيات تسمح لها بإقرار القوانين وبالاعتراض على قرارات ومراسيم الطرف الثاني ومنع تنفيذها، ودعت في الفقرة 4 من المادة 15 الى تحديد وضعية "الحكم الذاتي الثقافي الكردي"، عبارة غامضة لا تحدد طبيعة الحكم وطريقة تجسيده، ما جعل من السلطة التشريعية كائنا برأسين، ومن النظام السياسي كيانا مجهول الهوية لا هو نظام فدرالي ولا هو نظام مركزي ولا هو نظام لامركزي صرف، حالة غريبة لم تعرفها النظم السياسية.

وقف خلف هذا الصيغة الغريبة هدف سياسي روسي مرحلي هو المحافظة على التحالفات الراهنة والتوازنات الميدانية والسياسية، ريثما تتضح توجهات الإدارة الأميركية الجديدة،  خطوة في سياق إدارة الأزمة لا حلها، باقتراح دستور على قاعدة محاصة بين الدول والأطراف المنخرطة في الصراع في سوريا وعليها ما فرض إرضاء رأس النظام، الذي وفر لروسيا فرصة التدخل وشرعنه، باعتباره رئيس الدولة من وجهة نظر القانون الدولي، فمنحته صلاحيات واسعة وأساسية. ووضعت ضمن المادة 60 المتعلقة بالقوات المسلحة عبارة "وغيرها من الوحدات المسلحة"(الفقرة 3 و 4 من المادة 10) إرضاء لإيران التي تسعى لتعميم تجربة حزب الله بتشكيل ميلشيا تابعة لها في سوريا، فعلت ذلك في العراق عبر تحويل الحشد الشعبي الى قوة شرعية، تكون أداتها في التأثير على سياسات الدولة وتوجهاتها لحماية مصالحها وتثبيت نفوذها. وأشركت رئيس الوزراء وجمعيتي "الشعب" و "المناطق" في بعض صلاحيات رئيس الجمهورية للإيحاء بحصول تغيير سياسي تحقيقا لبعض مطالب المعارضة إرضاء لتركيا، كما قالت بتشكيل "جمعية المناطق"، وحذفت الصفة القومية للدولة، ودين رئيس الجمهورية، واستبعدت الشريعة الإسلامية كمصدر رئيس للتشريع، وصاغت القسم الدستوري(اقسم أن التزم بدستور البلاد - المادة 7) دون تحديد بمن يتم القسم، إرضاء للقوميات والأعراق غير العربية، والمسيحيين والمذاهب الدينية الأخرى. وهذا شكل مأزق مسودة الدستور لأنها في توجهها لإرضاء أطراف ذات مواقف ومصالح متناقضة خلقت كيانا سياسيا تختلط فيه الصلاحيات والأدوار، مثلا المادتان 43 و44 المتعلقة بصلاحيات "جمعية الشعب" تقول بصلاحية الجمعية بإقرار القوانين دون تحديد من يضع هذه القوانين، وما إذا كان للجمعية حق طرح قوانين أو مجرد مناقشتها وإقرارها، كما هو معمول فيه في النظام السوري حيث تمرر قوانين وقرارات رئيس النظام عادة دون مناقشة وبرفع الأيادي، في ضوء كون التشريع المهمة الرئيسة للسلطة التشريعية، كما هو متعارف عليه دوليا، وتعود في المادة 45 لتمنح حق التشريع لأكثر من جهة تقول المادة "يمتلك المبادرة التشريعية جمعية الشعب وجمعية المناطق ورئيس الدولة ورئيس الوزراء"، بشكل لا يمكن أن يستقيم ويحقق الجدوى السياسية المطلوبة، وتمنح، في الوقت ذاته، رئيس الدولة حق رفض قوانين أجازتها جمعيتا "الشعب" و"المناطق". هذا وربطت كثير من الإجراءات بلازمة "وفق القانون" دون أن تحدد هذا القانون أهو القانون المعمول به في ظل النظام الحالي أم هو قانون سيوضع لاحقا.

يبقى أن نشير الى ورود مواد مهمة تتعلق بالحقوق والواجبات لكنها لا تشكل الأساس السياسي للنظام المنشود، ويبقى أن ليس من حق روسيا أو أية دولة أو قوة خارجية وضع دستور لسوريا هو حصرا حق سيادي لشعبها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب