السبت 2017/12/30

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

ستة ذئاب في شقة

السبت 2017/12/30
increase حجم الخط decrease
كنا نجهل أننا سنقيم مع ستة ذئاب.

اتصلت بالسيد جواد، وأخبرته أني حصلت على رقمه من أبي كردو، فرحب بي، وأخبرني أنه سينتظر مكالمتي حال وصولي إلى أثينا، أبلغته أن معي صديقاً، فرحب بي وبصديقي، ما دمنا وصية صاحبه أبي كردو. في أثينا كان ينتظرنا. وجه جواد القفقاسي الصارم خالٍ من المشاعر، لكنه يوحي بالثقة والخبرة، أخبرنا أنه سيستضيفنا في بيته لحين موعد السفر.  كان واضحاً ومباشراً: الأجرة هي أربعة آلاف وخمسمائة يورو للنفر، وقد نفرنا من سوريا خفافاً وثقالاً مولّين، والنفر أحسن من تعبير الراس الذي يستخدم للماشية والفرسان أيضاً، واعتذر لنا من غير حلفان، أن المال، سيذهب كله إلى الشرطة الإغريقية، والطيار، والمناوبين في المطار، ولن ينال منها سوى بعض القروش، وأنّ هذا سعر خاص وكريم خصنا به، وفيه حسم طيب، فأبو كردو له فضل عليه. ركبنا سيارته، وأخبرنا أنه سيدعونا إلى ضيافته في أحد المطاعم القريبة من بيته، ولم نكن نعلم أنه يربي في شقته، في الطابق الرابع ستة ذئاب متوحشة!

انتابتنا مشاعر الدهشة التي تنتاب زائر واحدة من أقدم العواصم في العالم، قبل ساعات، كنا في عاصمة التوحيد إسطنبول، ثم صرنا في عاصمة بلاد الآلهة الكثيرة، طمأننا أن المطعم تركي، واللحم حلال، وأن السفر سيكون قريباً، فطياره، أي الطيار الذي يتعاقد معه على تهريب النازحين إلى ديار ميركل في إجازة، أو لعله مريض. بعد الطعام دعانا إلى بيته، فلا بد أننا متعبان من السفر، فأخبرناه أن السفر متعب حقاً وفيه شقة، وهو قطعة من العذاب، لكن القلق عذاب أكبر، فقد اختلسنا الرحلة، واتخذ الحوت سبيله في البحر سربا، وركبنا زورقاً سريعاً في الليل، وكأننا هاربان من سجن، أو في سباق قوارب نفاثة.

وصلنا شقته، وكشف لنا ضاحكاً أن الأزمة الاقتصادية التي أصيبت بها اليونان سببها هو وأهالي قريته جوجيان، وكان قد نزح من سوريا قبل سنوات، إثر سقوط بغداد، بجواز عراقي، وكانت الأمور حسنة مثل الليرة، وكانت الليرة يوماً يضرب بها المثل في الحسن والجمال، وما أهينت إلا من لعنة صورة الرئيس، التي أودت بها إلى الهاوية وساءت مرتفقا.

كان الاحتيال سهلاً في اليونان، استطاع هو وأهالي قريته جميعاً، الذين لحقوا به، وكلهم أرحام وقرابات، اقتراض مبالغ هائلة من البنوك اليونانية، والعراقيون كانوا قد سبقوه، وكل قرض يبلغ خمساً وستين ألف يورو، فاشترى شقة مع ابن خالته، ثم خاتل ابن واستولى على الشقة، وغيّر اسمه، والشرطة ترتشي بسهولة، فالفساد والسفاد هنا شائعان، ويسيران، سقطت طروادة بخدعة الحصان، وسقطت عواصم خمس دول عربية أو كثر بخدعة الرئيس الحمار.

وفي شقته، التي سنصل إليها، سنجد زكائب من الجوزات المزورة مبعثرة فوق السرير، وتحت السرير، وفي الممرات.. أخبرنا، وهو قليل الكلام، إنه يستطيع بسهولة تهريبنا إلى بلاد بعيدة وكثيرة، لكننا نريد ديار ميركل، لا نريد عنها بديلا، وكأنها أمنا التي أنجبتنا، في لحظة ضعف، في فلم هندي، ونريد العودة إليها لمّا للشمل الذي مزقته الأقدار. الجميع يريد ألمانيا، إنها حمّى ميركل.

صعدنا الدرج، فالمصعد معطل، اليونان هي أرومة أوروبا، بل هي مكّتها المقدسة، لكن مزاجها شرقي، رنّ الجرس، فسمعنا أصوات جري وهرولة، فُتح الباب فوجدنا خمس صبايا، مشرقات من النضارة والجمال، والعري المفترس، سيقان وأفخاذ و نهود لامعة السفوح وبارقة، يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، لحقت بهم السادسة، واستقبلنه عند الباب، كما تستقبل الهررة الجائعة صاحبها العائد بعد غياب.

المفاجأة لم تكن في البال، عرّفنا بهن: باولا، سوكي، فيث، ماريانا، ميلينا، وانجلينا، ودعانا للدخول، ودلّنا على غرفتنا، ونحن بحاحة إلى هدنة تعارف، نتلمس فيه دربنا الوعر من سطوع الجمال، ثم انصرف إلى إحداهن، انجلينا، وبدأ يوبخها ويغلظ عليها، ثم غضب، وراح يضربها لكماً ورفساً، وانهمك في إيذائها، يلكم نهديها الصغيرين، وهي مستسلمة مثل كيس الملاكمة، تتطوح، وتتقي ضرباته، وتبكي، وتعلن التوبة، صوتها المذنب كان ينوح، وترتد إليه، ونحن واقفان كأننا نشهد عرض مصارعة حرة من طرف واحد.

استمرت حفلة الضرب دقائق، وجدناها دهراً، وحبسنا الأنفاس، كانت زميلات انجلينا صامتات، بل إن بعضهن استمرين في أعمالهن، ولا عمل لهن سوى هواتفهن. لم يكن ضرباً عادياً، كان مبرحاً، كالذي نراه في أفلام المافيا، كان ضرباً يؤدي إلى القتل، نظرت إلى أبي النور، كان يحبس أنفاسه مثلي، تكومت انجلينا على الأرض أنقاضاً من اللحم والعظم، ولم تكن ترتدي سوى بضع خرق ملونة، يمكن طيها، وحشرها في الجيب، وعلى جسمها الأبيض تشكلت بحيرات حمراء ما لبثت أن تحولت إلى كدمات من السواد والزرقة، سكن غضب جواد أخيراً، وارتوى من نقمة الغيظ. لكنه ظل يشتمها بلغة أرسطوطاليس وسوفوكليس.

ماذا نفعل، فنحن أسرى، ولا نعرف أحداً في أثينا، وتذكرت شهادات المعارف، والسجناء السياسيين، الذين خرجوا من سجون الأسد، ورووا لنا الفظائع، وأن أقسى ما لاقوه من أهوال، لم يكن التعذيب، وإنما سماع أنّات وآهات النساء والأطفال، وعجزهم عن تقديم العون لهم.

لم نفعل شيئاً لأنجلينا، كانت مروءتنا قد ماتت، وكان نظام الأسد قد اجتهد في قتل المروءة في سوريا قتلاً.

التفت إلينا جواد واعتذر، وقال: إنها تستحق العقاب، ثم خرج، بعدما دعانا إلى اعتبار الشقة شقتنا. ولم نعرف تهمة انجلينا. سقطنا من الإعياء ومن الضرب الذي نالنا، كما نالها، نتخبط في الأكم وفي الوهد.

عادت الحسناوات إلى مقصوراتهن، ولم يبق مع انجلينا المجدلية سوى الأفريقية السمراء فيث، تحاول إسعافها ومواساتها، كان محمد نور مذهولاً من أمرين: الأول أن يهان كل ذلك الجمال، الذي لم يره قط، ويضرب كل ذلك الضرب، وهنا لا بد من التعريف به، هو صديق تعرفت به حديثاً، عمره إحدى وثلاثون سنة، والسنة غير العام، أعزب، لم يعرف أنثى قط، عفيف وتقي وورع جداً، من أسرة صالحة، ربتّه على الصدق والإحسان، والأخلاق الحميدة، وهو هيّن ليّن سهل قريب.  كان يستحق أن يعشق من أي صبية.

كان واقفاً مذهولاً، لا يزال ينظر إلى الحسناء المضروبة ضرب البغال، وقد برز نهدها الصغير من القميص الملون، الذي كانت ترتديه، وعليه فراشات كثيرة، وأشجار، وزهور ليس لها من جنسها أزواج، وكائنات مجنحة لم نرها في أطلس بعد.

بادرتُ إلى إخراج علبة من الشوكولا، وأخرى من التمر من حقيبتي، كنا تزودنا بها زاد الطريق، وفتحتها، وبدأت أقدمها للذئبات، فأقبلن عليها بشهية، ونادت فيث صاحباتها، وخلال دقائق كانت العلبتان قد نفذتا، وسعدنا كثيراً بالسرور الذي ظهر عليهن.

انجلينا نهضت، وجلست وهي تتأوه، وبدأت تأكل، واللعاب يسيل من فمها من شدة الألم.

أعددت شاياً طيب الأعراق، وشربنا، وشربتْ معنا الذئبات المدجنة، وغلبتنا سنة من النوم على الكراسي، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. في الليل عاد جواد المختلَسة هيئته من أنسال منغولية مهجنة في القفقاس، فاستقبلته الذئبات المدجنات على الباب، وسرعان ما أعدّت له باولا النرجيلة، والحق أنها كانت جاهزة، وما أعدته هو مكعبات جمار الفحم، وأحضرت انجلينا، وهي تعرج من ركلة في ساقها الممردة، الماء الساخن في وعاء معدني، وقربته من جواد الذي لا يبتسم إلا نادراً، فمدّ قدميه في الماء، وجلس ينفخ الدخان المطيّب، الذي عبق الغرفة برائحة معسل خمائر التفاح، وانكبت بإخلاص تدلك قدميه وتغسلهما كما في أفلام الفتوات المصرية.

لن أنسى القول مرة تلو المرة، إنها كانت شبه عارية، والكدمات زرقاء واضحة على جسدها، وفخذها الأبيض الناصع، وعلى قميصها ورود وزهور ليس لها من جنسها أزواج، ولم نرها في أطلس قط.

كانت الحياة شاقة مع الذئبات الست، اللاتي يزمجر عريهن، لولا عيب منكر، هو الوشوم العجيبة على أجسادهن، سوى فيث السوداء وسوكي، عقارب وتنانين، نباتات وطحالب على أجسادهن، لم نرها في أطلس، ولا في كتاب مبين، في النحر وعلى السواعد والرقاب. لم نكن نقابلهن إلا في المطبخ، أو في الصالة الصغيرة. أخذنا إذناً من السيد جواد القفقاسي الهيئة، باستعمال الشرفة المطلة على ملعب للتنس، فوافق، فكنا ننام عليها ليلاً. صحونا في إحدى الليالي، لنجد فيث السوداء نائمة معنا، عارية طبعاً، لكن بحمد الله، السواد أقل شراسة من البياض، فغضب جسدها مكتوم، والحق أننا نجونا من الافتراس بفضل الإخصاء النفسي، الذي يسمى في باب الأخلاق، بالعفة.

ما أرويه ليس حكاية الذئبات الست، ولا حكاية انجلينا، التي لم نعرف لمَ تضرب، إنما هي حكاية أبي النور، الذي لم أرَ مثل عفافه عفافاً، وكان روى لي قصة خروجه من سوريا، ومحاولات نزوحه الفاشلة عبر البحر، سبع مرات، والشرطة التركية تأسره، ثم ترده، عندما أمره والده بالهرب من حلب هو وأخوه، ونصحهما بسلوك طريقين مختلفين، كما وصّى يعقوب عليه السلام أبناءه،" لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ".

وله مواقف، يقف من هولها الشعر كشوك القنفذ، وهو شاب ذكي، كان يمكن أن يكون قائداً أو فاتحاً، لولا أنه ولد في سوريا الأسد، فضمرت مواهبه، كما ضمرت مواهب أجيال في سورية، والأهم في  سيرته، هي أنها خالية من ذكريات الأنثى، عاش راهباً في الأمن والاستقرار الجنسي، وقد تأخر زواجه، وهو يدخل العقد الثالث بخطى فتية، ذهبية السنابل، يشوبها الزيوان، حتى بات يرهب الأنثى، تأخر بسبب ما يسمى في سوريا تكوين الذات، وتكوين الذات مثل  التوازن الاستراتيجي، الذي يختبئ خلفه النظام هرباً من المعركة، لولا أن الفرق، هو أن التوازن الاستراتيجي ذريعة، وأن تكوين الذات، غرامة اجتماعية واقتصادية. ولم يكن قد أحب أنثى وراسلها، لا قصص حب في حياته، المرأة عنده شبح أو طيف، أو وهم، هي كيان غامض، سوى مغامرة  طارئة، مثل دخول نادي ليلي في حلب، وكانت خدعة استدرج إليها من نصابين، لم ير فيه سوى أجساد روسيات عاريات على المنصة من بعيد، ولعل زيارة أثنيا، والإقامة مع ست إناث مفترسات بعريهن الفاجر، هي واحدة من أهم معاركه في الحياة.

كنا يومياً نزور حي الأكروبوليس، وحي بلاكا مشياً على الأقدام، ونتجول فيها، ولا نلج المقاهي، ندخر قروشنا البيضاء للأيام السوداء، فنحن في غربة، ولا نعرف ماذا تخبئ لنا الأقدار.

دخلنا شهر رمضان، فشعرنا بالوحشة في بلاد الإغريق، وتغيرت عاداتنا، وطفق أبو النور يدبج وجبات الإفطار مستهدياً بوصفات غوغل ويوتيوب، وفي ساعة الإفطار، قررنا دعوة الذئبات، فلبينَّ الدعوة جميعاً ممتنات شاكرات، فهن لا يعرفن العالم سوى بحواسهن الخمس، سألني أبو النور عن هذا السلطان الكبير لجواد عليهن، فتأولت الأمر في أنه يقدم لهن المال والمأوى والطعام، وربما هن مدمنات على بعض العقاقير المحرمة الغالية. وقلت: قس حبهن له، بحبنا للسيد الرئيس. القط يحب خنّاقه.

كان أبو النور كثير السؤال، وأخبرني بأنه يرتاح لأجوبتي، وأسئلته كلها كانت حول الثورة، هل كان الإصلاح ممكناً، فأجيب وأقول: عد إلى الوراء، وإلى بيان التسعة والتسعين وما جرى، الإصلاح كان مستحيلاً، أما تسلح الثورة، فكان حتماً مقضيا، ويسأل عن أسباب فشل الثورة، فكان جوابي: أنها بلا قيادة، وليس لها أب. أسئلته كانت من هذا النوع، وأحياناً حول العقيدة، والمرأة، والحضارة. وأظن أن سبب إعجابه بأجوبتي، أنها لاقت هوى في نفسه، ووافقت عقيدته.

بدأت الذئبات الست يساعدننا في إعداد الإفطار بعد العصر، فكادت الطبخات أن تحترق من شدة الوجد والصهد تحت نفوسنا. تسيل على حد الجمال نفوسنا ... وليست على غير النساء تسيل، لا من كثرة النيران تحت أوعية الطبخ، وكان من المؤسف أننا نتواصل بالإشارة، فلا نعرف من اللغة الإغريقية شيئاً، ولا يعرفن الإنكليزية أيضاً، وكنا مدهوشين من أن كل هذا الجمال لا يعرف اللغات، فإن لم يكنّ يعرفن اللغات، فلا بد أن يعرفن إحداها، ولابد لليل أن ينجلي ولا بد للغيظ أن ينفجر، وبدأت الجواري الحسان يحتشمن على الإفطار بإيعاز وإيحاء من سوكي، التي كشفت لنا أنها مغربية الأصل، واسمها سكينة، لكنها لا تعرف من العربية سوى البسملة، وبعض عبارات الترحيب، ولم ينجنا احتشامهن الغادر والطارئ، من بعض الغارات والمنجنيقات، التي كانت تدك حصوننا ومعاقل أفئدتنا، كأن ينبثق فجأة نهد من مكمنه منفلتاً من عقاله، أو يلمع فخذ انحسرت عنه أمواج الساحل، فتعصف بنا موجة تسونامي من الرغبة المقيدة. وكن ينتظرن عقارب الساعة، التي تؤذن بمغيب الشمس، وارتفاع صوت المؤذن التركي من هاتف أبي النور، فيهيمن جناح من الخشوع الحذر، على تلك الدائرة المكونة من ست حوريات، وذكرين تحلقن حول سفرة من الطعام، عليها صحاف من أطايب الطعام، فرشت على الأرض.

وكانت انجلينا قد نالت سومة أخرى، مثل الأولى من العذاب، وترددتُ كثيراً في أن أسأل السيد جواد عن ذنبها، اصطحبنا للقاء أحد مزوري جوازات السفر، في أحد المقاهي التركية، فأبدى غضبه من سوء تزوير الجواز، قلبنا الجوازين، ولم نعرف سبب غضبه، ورد الجوازين إلى شفيع جنان أوربا، كان اسمي قد صار باولو، وأبو النور روماريو، وطلب جوازين جديدين.

تعبنا من الانتظار، واشتقنا إلى إسطنبول وحي الفاتح، والأشقى كانت معاناتنا من الذئبات، فكنا نتصرف وكأننا مخصيين، والمخصيون يكتسبون فضيلة بعد الإخصاء، هي حناجرهم التي تقوى وتجهر، في حين أن أصواتنا كانت تضعف عندما كنا نكلم الذئبات الست، فنبدو مثل جروين يتيمين فقدا أمها، وخلصت وأنا أشخص مصيبتنا، إلى أن الجماهير العربية كانت قوية الصوت، فلا بد أنها كانت مخصية.

في اليوم الثامن عشر من رمضان، أبلغت جواد أنني تعبت وشقيت، وأريد العودة إلى إسطنبول، لكن محمد نور عزم على السفر براً  في محاولته التاسعة، إلى ديار ميركل، فقد نجح أخوه، وبلغ مجمع البحرين.

العيد يقترب، ولنا أصدقاء اشتقنا إليهم، فسكت جواد، واعتذر، فالطيار لم يعد، ولا يعرف أخباره، حاسبناه على أجرة السكن، فرفض قبولها، لكننا أصرينا على تسديد أجور السكن مع جواريه الست، فرضي، اختار محمد نور البقاء، أبلغنا الذئبات الست   بقرار سفرنا، فبدا عليهن حزن شديد، ومددنا أيدينا لمصافحتهن، فعانقننا، وارتمين في أحضاننا للوداع، وكان حال محمد نور والحوريات يقبلنه، ويضممنه إلى صدروهن كحال زغب الطير، الذي لم ينبت ريشه، وقنط من الطيران.

ودعت محمد نور، فودعني، وأخبرني بأنه سيحاول محاولته البرية الأخيرة، وفقد نفدت أموال الادخار، وقال لي: إنه نجا من السيرينات بفضلي، وكنت حكيت له قصة السيرينات الإغريقيات في رحلة الأوديسة، وأخبرته أني نجوت منهن بفضله، وكان كلانا قد نذر للرحمن وهو يخرج من الأرض المباركة وقد صارت ملعونة: "لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ"، وكنا قد نجونا من الموت مرات، وأخبرني أنه سيقصد صديقاً جديداً وصل إلى اليونان، ثم يحاولان من جديد، في الطريق سألت جواداً عن سبب تعلق البنات به كل هذا التعلق، وقلت له إنه ذكرنا بملك اليمين وعصر الجواري، فسكت وابتسم، وكأنه قد اعتنق أفكار الأمير في كتاب ميكافيلي الشهير، وصناعة الهيبة، وكان أميراً، أمته كلها من الكواعب، ودعني قائلاً: سلم لي على أبي كردو.

انطلقت بي السيارة باتجاه البحر حقبا، كنت مثخناً، وقد أثبتتني الجراحة، وأعجب من تقلبات الزمان، ومن رجل لم يغادر بلدته، تحول إلى سندباد، أقلب المدن مثل ورق الشدّة؛ أنطاكية، أنقرة، إسطنبول، وأعود مكسوراً مثل جيسون في رحلة الأوديسة من بحر الضياع، ولكن من غير غنيمة الفروة الذهبية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب