السبت 2017/12/16

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

الصرخة المخنوقة والنوتة13

السبت 2017/12/16
increase حجم الخط decrease
"كاف هاء ياء عين صاد".
تكشف عشرات الشهادات المصوّرة، بعين اليقين، وأذن اليقين، وعلم اليقين، وحق اليقين، ويقين اليقين، أمراً كان مستوراً في سورية الأسد، وهي أن وحوش قلعة "آلموت"، كانت مقيّدة، وقد أطلقتها الثورة، فأفلتت من عقالها، تقتل وتسرق وتغتصب. وتلخص الشهادات عبارةً سمعناها مرات في أفلام مصورة: "حرية.. هاي هي الحرية اللي بدكن ياها "، وشرحها حسب الزوزني والعكبري: أننا إذا كنا نهوى الحرية، فهم أيضاً يهوون حرية الاستعباد.

شهادات فيلم "سورية الصرخة المخنوقة" الذي عرضته قناة "فرانس2" قبل يومين، شديدة القسوة، والشهادات كثيرة في الشبكة، حتى أن كثرتها أضعفتها، وجعلتها بلا أثر. النظام العالمي الجديد، عوّم وثيقة الشهادة السورية. كان النظام يعارض التطبيع مع إسرائيل، ووكل به اتحاد الكتاب، ونجح في تطبيع العالم كله؛ الشرقي والغربي، والشمالي والجنوبي، الاشتراكي والرأسمالي، المؤمن والكافر واللاأدري، مع الدم والاغتصاب والقتل.

وقد يكون الاغتصاب "لتحطيم العائلات وتحطيم المجتمع، وفي نهاية المطاف لتحطيم الثورة"، كما ما قالت مخرجة الفيلم مانون لوازو، لكني أظن أنها غريزة أساسية في أنسال جماعة آلموت، وأحاول تلمس آثارها في أحاديث مع جميع من حاورتهم من سلالة آلموت، عندما "كنا عايشين" في سورية.

والنظام مثل مخرج ماهر، استطاع إخراج فيلم كبير، اسمه سورية الأسد، الآمنة المستقرة. كان قد صنع فيلماً طويلاً مدته نصف قرن، له بطل وحيد، وأبطال مساعدون مثل المفتي، ونجوم التلفزيون، ومجلس الشعب في تابوت البرلمان. أما الكومبارس، فهم الشعب، وكانت رسالة قلعة آلموت المبعوثة من جديد في قناع حزب البعث، هي أن سورية، بفقرها الحاضر، وتاريخها العريق، وطابور الخبز اليومي، وعشوائيات المدن، وفروع مخابرات، "طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِين"، مدينةٌ فاضلة مزينّة بالأكياس الطائرة، خلقها الأسد من نواة العدم، في ثورة الثامن من آذار المجيدة، وبلغت الفطام في الحركة التصحيحية المباركة.

كنت أشاهد الفيلم، ونَفَسي يضيق، حتى أني كنت أسمع صوت شهيقي يصفر في زقاق التنفس، ويتعثر في طريقه بالحفر، والحجارة، والزفير، وأشخب في دم جاف، كأنني مذبوح بسكين قديمة مكلومة.

سألت بعض الأصدقاء عن الفيلم، أطلب منهم العون النفسي، والمدد والسلوى والعزاء، فكشف لي أحدهم، بأنه شاهده بالتقسيط، مع أنه أدمن مشاهد القتل اليومية، وأخبرني صديق ثان، أنه شاهده، وأحاطه بالقهر. وسألت أحد معارفي الموالين الذين يتحرشون بي عبر وسائل التواصل للنكاية، عن الفيلم، فلم يهربوا، السوري ليست له موهبة المصري في الطرفة، فاعترف بذنبه، فسحقاً لأصحاب السعير، وكان الموالون قد اعترفوا بأنّ بوتين أهان رئيسهم، ولو كان الأمر في مصر لجعلوا الإهانة تكريماً، أو خطأً مطبعياً. قال لي الصديق الموالي: إنها حرب قذرة. وكان هذا اعترافاً، لكنه ساوى بين الطرفين في الذنب، فسحقاً لأصحاب السعير.

أمٌ تُغتصب أمام زوجها، أو أمام بناتها، وبنات يذبحن، وجنود زبانية على الحواجز منذ سنوات، جوعى للخبز والنساء والكرامة، يتناولون عقاقير تجعلهم أيقاظاً، وهم في غنى عن العقاقير، فالمذبحة تزكّي النفس الأمارة بالسوء، وتفتح الشهية. هذا حقد متخمر منذ عشرات السنين، عطره يسكر النفس الحقودة. الحروب الصليبية جرى فيها ما يجرى الآن، وكانت تهمتنا وقتها تدنيس قبر ابن الله الوحيد، وليس في عقيدة المسلمين السنّة ابن لله، فعيسى رسول، وأمه صدّيقة، وكانا يأكلان الطعام. وعيسى واحد من الخمسة أولي العزم من الرسل، ولم يمت المسيح عليه الصلاة والسلام في عقيدة المسلمين، فهو معجزةٌ ولادةً، ومعجزةٌ موتاً، وموته مؤجل، وتهمتنا الجديدة، هي الاعتراض على ولاية الإله الوحيد، الذي ولد في القرداحة، وابنه المعفو من الذنوب بالفيتو أو بغيره، بل هو المخلص الغافر.

في رواية "العطر.. قصة قاتل"، لباتريك زوسكيند، جثا أنطوان ريشي، عين أعيان مدينة العطور كراس الفرنسية، على قدميه أمام جان باتيست غروني، على منصة الإعدام. ابن الزنا المظلوم، الأعرج، القبيح، الذي ولد كتيم الجسم من الروائح مثل عظاءة الاغوانة البحرية. القراد الصبور، الذي لم يعش حياة طبيعية، وكان قد جاء ليشتفي منه إعداماً، فتوسل منه الاعتذار، بعدما شمّ رائحة عطر الخلود، الذي اخترعه غرنوي، وطلب منه المغفرة بعبارات تفيض بالحب والحنان، والاستغفار والرحمة.

كان النظام قد اخترع عطراً، صلباً، كسب به قلب النظام العالمي. بالديني، صانع العطور الباريسية، شرح لعبده جان غرنوي طريقة صناعة العطور، وعرض له نظرية الاثنتي عشرة نوتة، والنوتة الثالثة عشرة، التي يستحيل الحصول عليها، لأنها تحوي رائحة الأبدية التي لا تزول، والتي يعني الحصول عليها القدرة على الاحتفاظ برائحة الجمال إلى الأبد.

استطاع الأسد كسب حب روسيا وإيران، والحشد الشعبي، وطوائف في تركيا تهيم به وجداً، فاستسلم لها أردوغان، كما استسلم صلاح الدين لجماعة آلموت، فتركهم يئساً. وسكت عنه الغرب أيضاً، وهو يبكي ويضحك، فصورة انتزاع رضيع من الحاضنة في مشفى كويتي، وكان فيلماً مختلقاً، في غزو العراق للكويت، كانت كافية لإشعال وسائل الإعلام الغربية بالغضب، غيرةً على الكويت وزيتها من وراء، لكن العاشق الغربي، سكت سكوت الرضى، وترك القاتل يقتل بالبراميل والسكاكين، ولا يزال القتل والاغتصاب مستمراً.

أمس، صرح ترامب بأنه لا يمانع أن يحكم الأسد حتى سنة 2021، ووفد النظام يغيب عن الجلسات في جنيف، ويتدلل، فيشكو دي مستورا، شكوى العاجز، لولي أمره في روسيا، دلال هذا الوفد المشاغب، وهذا إرهاص بأن مسلسل باب الحارة، الذي يمثل فيه بشار الجعفري دور أبي عصام في جنيف، سيطول.

كان النظام مثل جان باتيست غروني قادراً على شمّ رائحة المعارضة. انتحر جان غروني، وكان يقتل، ولا يغتصب، قتل 25 صبية من أجمل الصبايا، حتى يتذكر رائحة أمه، التي قُتلت وهي جائعة، في الوحل. وأمس انتحر القائد الكرواتي البوسني سلوبودان براليك، وانتحر هتلر، لكني لم أسمع بقائد، أو علَمٍ آلَموتيّ واحد اعترف بذنبه، أو انتحر، أو تبرأ من النظام، وكنت آمل أن نشكل وفوداً أهلية، أو فردية، إلى بيوت الضحايا الطاهرات، للاعتذار منهن، وعنوانهن مجهول، وأن نجثو جميعاً على ركبنا المكسورة، أو لواحدة على الأقل، فنعتذر منها، ونقول سامحينا يا أمي، يا أختي، "يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا"، نحن أبناؤك وأخوتك الكفرة الفجرة، اغفري لنا لأننا نقتلك مرتين. وأخشى أن نقوم بالعكس، فنعتذر من القاتل، الذي اكتشف عطر الأبدية والنوتة الثالثة عشرة.
" ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب