السبت 2017/11/11

آخر تحديث: 00:00 (بيروت)

الرصاصة لا تزال في ظهري

السبت 2017/11/11
increase حجم الخط decrease

أظنُّ أني ابتسمت ابتسامة ساخرة، عندما أطلعني أوسمان على الدعوة. كان فيها أمر، بل أمور مضحكة، وكتمت ضحكتي، لكنه لاحظها، وبدأ الانتقام.

صرت سائقاً لحصادة، أحصد أعشاباً، ما تلبث أن تنمو كلما حلقتها، فالأمطار تهطل في غوطة ألمانيا، وكلها غياط، صيفاً وشتاء. وكنت سعيداً بمهنتي الجديدة، التي تجعلني كل صباح أستحم برائحة الأعشاب، واغتسل بالضباب، وأجر ورائي محراثاً، وأسراباً من الطيور، غربان ونحام وبط وأوز، وطيور لا أعرف أسماءها وأسماء آبائها.. إنها أسراب سعيدة بفتوحاتي في الأرض، وإيقاظ الهوام والحشرات الهاجعة. طيور كثيرة تلحق بي. إنها مهنة ماتعة، لولا أوسمان.

وأوسمان، نازح مثلي، ومن بلدياتي، زعم إنه من عشيرتي، وقد عاد زمن العشائر، وزميل في الشركة التي أعمل فيها، دعاني إلى مظاهرة يوم الأحد، فاعتذرت، فجنَّ جنونه، وبدأ بمضايقتي وإيذائي. وظلـم ذوي القربـى أشــد مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند.

كان يمكن لي أن أصبر، فقوانين العمل في ألمانيا واضحة. خصمي الجديد، عامل أمن على الباب، “سكيورتي". سيعبر كل عامل خارج من الشركة الباب الإلكتروني، كشاف المعدن. ولم أعرف الحكمة من الفحص الدقيق  للعمال الخارجين، وقدرت أنه ليس لسرقة الآلات والقطع المعدنية، وقد يكون، فهناك عمال تسرق للإيذاء، والانتقام، ويمكن للعامل والموظف أن يتجنب الفحص بالعصا الإلكترونية، بأن يجرّد نفسه تجريداً مطلقاً من المعادن، كما في المطارات، ساعة وخاتماً وأقراطاً ونطاقاً،  فينجو من الفحص بالعصا ، والفحص بالعصا لا يطول أكثر من دقيقتين أو ثلاث، لكن الدقيقتين عند الخروج تصيران دهراً، وبلدياتي أوسمان يفحص بالعصا، ويأمر الخارج بأن يرفع يديه، ويدير ظهره، ومشكلتي أني لا أستطيع تجريد نفسي تجريداً تاماً من المعادن، فثمت قطعة معدنية في ظهري، إنها  رصاصة، مثل حبة الحمص، قضامةٌ معدنية، والقضامة حبة حمص مشوية  بالنار، ولم أعرف باتخاذها ظهري موطناً، إلا بعد مرور سنة على استقرارها فيه، عندما نزحت بجروحي إلى بلاد الأنصار، تركيا.

ركبت الطائرة من أنطاكية إلى إسطنبول، وعبرت الباب الإلكتروني، فنبحت علي كلابها، وصفارتها، فخلعت كل ثيابي، سوى ورقة التوت، وتبيّن أن ثمة قطعة معدنية في جسدي، وعبرت. كان الأتراك كرماء كثيراً في البداية، وكان السوريون يعبرون الحدود بسهولة، والأولاد يهرّبون النازحين الذين ليس لهم جوازات بألفي ليرة عبر الحدود.

حاولت تذكر اللحظة التي أصبت فيها بالرصاصة، فلم أجد سوى ذلك اليوم المشهود، الذي قتل فيه أصحاب الأخدود.

 كان قد مضى شهور على الثورة التي أطلقها الصبيان، وظلت الثورة للصبيان قيادةً، وإن كانت أعمارهم كبيرة. واتخذ النظام قراراً عجيباً، وكان النظام يزن ويقيس، فقرر إزالة أصنام الرئيس من حماة، وأزيحت، ولكنها عادت الآن، لكن حمص غير حماة، وكنت قد خرجت للتسوق على دراجتي، وعبرت الحواجز، ولما عدت، كان الوطيس قد حمي حول الصنم،  وأحمرت الحدق، وهي لم تكن يوما إلا حمراء، والتحم الحيّان السني والعلوي، وارتطما، فلم أعد قادراً على العبور، الموجتان البشريتان تميدان، والرافعة التي جاءت لحمل الصنم طردت، وضرب سائقها، وكان معه أمر من المحافظ، وبدأ الرصاص يزخ كالمطر أفقياً، وسقط متظاهرون صرعى، ولم أعد أعرف كيف أتصرف، فاليمين مسدود ويقود إلى حي ملتهب، ليس لي فيه أحد. والشمال حي العلويين، وطريقي إلى بيتي، سيمر حتماً بدوار الصنم، الذي يسمى دوار الرئيس. فكرت وقررت أن اخترق طريقا في حي الطائفة الكريمة، فعبرت شوارع أربعة، ووجدت شبيحة مسلحين، يتعجبون من اقتحامي الحي. كان انتحاراً، رامبو لا يفعلها، ولا حتى شوارزنغر. وقدرت أنهم أيضاً خائفون. وجدت أمامي الطريق طويلاً وميؤوساً منه، ومسدوداً، فعدت، ولم أجد أمامي سوى عبور دوار الرئيس، دعست على بدال الدراجة بأقصى سرعة، ثم أزّت رصاصة بجانب أذني، فسقطتْ، وقدرتُ أني سقطت خوفاً من صوتها، أو تقيةً خوفا من أخواتها، لكني كنت قد أصبت بأخرى في ظهري، وقدرت أنها مرتدة عن صخرة أو حائط، وإلا كانت قتلتني، طلقة من مسدس صغير، عيارها 7 ملم. نهضت معفراً بالوحل والطين، وأعدتُ الكرّة غير مذمم، ولم أنزف، لأن دمي كان  قد تيبس من الخوف، ثم وقفت، وما في الموت شك لواقف. في الأفلام الأمريكية يسقط الأبطال، فيقولون شعراً، كما الصبي دومينيك، في فيلم "حدث ذات في أمريكا" عندما قال لصاحبه معتذراً ومبتسماً، وهو يموت: لقد انزلقت.

لكني نهضت، وربما شبحي هو الذي نهض . مشهد العبور مشهد أثير في الأفلام، مثل مشهد في فيلم "لمن تقرع الأجراس"، ومضيت، ووصلت إلى البيت، ولا أعرف كيف عبرت، وتمددت، غير مصدق أني نجوت، ولم أعرف بالطلقة إلا بعد سنة أو أكثر.

كنا قد تعارفنا أنا وأوسمان، وهو رجل من أعمال بلدتي، من إحدى قراها، وزعم أنه من عشيرتي، وكان أن دعاني للمشاركة في مظاهرة يوم الأحد القادم، ومدَّ يده لي بورقة الدعوة، فابتسمت، واعتذرت، ففوجئ، بل صعق، وكان يأمل أن أسارع إليها، وألح، فكررت الاعتذار، ثم سأل عن السبب، وهذا سؤال يوصف بالأمني، ولا يسأل في هذه البلاد أحد مثل هذه الأسئلة، قلت رأيي بصراحة غير معهودة، بدلاً من أسوق أسباباً مثل المرض أو العائلة أو السفر؛ لكل وجهة هو موليها، أنا لا أحبُّ هؤلاء القوم الظالمين؟ طريقي غير طريقكم. قلت له: أنت تذكر في كل جملة تنطقها الديمقراطية، مرة على الأقل، فلم لا تقبل بها؟

استلَّ الدعوة من يدي، وكأني سأدنسها، وكان فراق بيني وبينه، ولم نعد نتبادل السلام. ثم راح ينكل بي بتعريضي للفحص الإلكتروني، وفي ظهري رصاصة صغيرة مثل حبة الحمص. حبة قضامة معدنية، يأمرني في كل مغادرة أن أقف، وأن أدير له ظهري،  ولو استطاع  لضربني بالعصا ، ولا أجرؤ أن أقول له :خسئت، لم أدر ظهري. والدقيقتان يجعلهما ثلاثاً وأربعاً وخمساً، وهي دقائق تعادل دهراً، في ساعة المغادرة، وليس أجمل من العودة إلى البيت، فيجعلها غصة والنهار بسرمد.

ولو استطاع لجعلها ساعة، لكنه ليس وحده، فمعه زميل، وأحياناً اثنان.

قصدت الطبيب، سأستشيره، حتى ارتاح من ذل كلاب الباب الإلكترونية، التي تنبحني كلما عبرت، أريد أن أعبر الباب الإلكتروني بسلام من غير نباح ولا مواء، العامل الذي لا تهرّه الكلاب الإلكترونية، يمضي لشأنه كريماً ودينه موفور، وعرضه صيّن.

واستشرت الطبيب، وهو طبيب سوري لجأ إلى ألمانيا منذ ثلاثين سنة، من الرقة، فأشار علي بأن أستخرجها. وقد استقر بها النوى حتى صارت عضواً من الجسد، وسيتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وسأل عن سبب تأخري في انتزاعها، وذكرت له قصتي، وسألني ما إذا كنت مستعداً للعملية الجراحية، حتى يعمل لي تحويلة إلى المشفى، وما يسبقها من تحاليل، ووجد في عيني أسى على فقدان الرصاصة الأثيرة، فسأل عن السبب، فقلت:

والله ما كنت أريد التضحية بها، لقد غدت قطعة مني، وكنت أريد أن أموت بها، وهي معي، فهي ذكرى من الثورة.

ورويت له أنّ عمر بن الخطاب، كان يطعم الناس بالمدينة، وهو يطوف عليهم وبيده عصا، فمر برجل يأكل بشماله، فقال: يا عبد الله كُل بيمينك، قال: يا عبد الله إنها مشغولة، فمضى، ثم مرّ به وهو يأكل بشماله، فقال: يا عبد الله كُل بيمينك، قال الرجل: يا عبد الله إنها مشغولة - ثلاث مرات - قال: ما شغلها؟ قال: أصيبت يوم مؤتة، فجلس عمر عنده يبكي، ويقول له: من يوضئك، من يغسل رأسك وثيابك؟ من يصنع كذا وكذا؟ فدعا له وأمر له براحلة وطعام وجارية وما يصلحه، وما ينبغي له.  

قال: ولكن روايتك عن رصاصتك أنها أصابتك وأنت مول ظهرك  يوم الزحف.

قلت: حنانيك، أيها الحكيم، إني أتأولها خيراً، فلعل الرصاصة التي أصابتني، درأت حتفاً عن أحد الصبية المتظاهرين فشفعتْ لي يوم القيامة، فأدخلتني الجنة.

ابتسم الطبيب، وجلس واقتربت مساعدته الألمانية، بزيها الأبيض، فرجوت أن تكون إحدى حورياتي السبعين في الجنة على هيئتها، وجسّت بأناملها الطرية الرصاصة في ظهري، فشعرت بنشوة الانتصار، وأغمضت عيني متلذذا، حتى اصطكت عظام جدي السابع في قبره.

قلت: إلا يمكن أن أتبرع بالرصاصة بعد استخراجها لمحتاج، له نفس فصيلة دمعي حتى ينتفع بها.

قال: هي رصاصة وليست كلِيَة.

قلت: في ملتي واعتقادي وحساباتي هي أغلى من كلية.

قال ضاحكا: يمكنك تحويلها إلى ميدالية بعد نجاح العملية، وهي سهلة، ويمكن أجراؤها بتخدير موضعي إن شئت.

قلت: هذا يرضيني فأنا أخشى التخدير، فلي أسرار كثيرة، وهكذا سأكون أول مصاب برصاصة يتألم من إخراجها، أكثر من ألمه من اختراقها لحمه.

 أمر مساعدته الألمانية، حوريتي التاسعة والستين، في الجنة. فقادتني عاري الظهر، إلى غرفة. طلبت مني أن انتظر، ثم جاءتني ممرضة جميلة، رجوت أن تكون حوريتي الثامنة والستين تشبهها في الجنة. سلمتني ورقة التحويل إلى المشفى، خرجت وقرأتها بصعوبة، ووجدت أنها خالية من الأمر بجارية تخدمني، وسيتداعى جسدي كله للرصاصة بالسهر والحمى. ولم أكن بحاجة إلى راحلة، وكنت قد أصبت في معركة مؤتة، التي  واجه فيها ثلاثة آلاف رجل، مائتي ألف من العدو مسوّمين.

وجلس عمر يبكي..

عليك سلام الله يا عمر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب