الأحد 2017/01/29

آخر تحديث: 08:10 (بيروت)

دستور الشاعر

الأحد 2017/01/29
increase حجم الخط decrease
هذه المرة، لم تلتهم السياسة خبر رحيل أديب كبير. لم يسطُ الجدل المرّ على الحزن الواجب لفقدان قيمة شعرية كبرى. لم يجر مع سيد حجاب- لحسن الحظ رغم حزن الخبر- ما جرى مع رحيل الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وغيرهما. ربما لأن حجاب لم يحتك مباشرة بالسياسة، قدر ما فعل الأبنودي ونجم (رغم بضعة أشهر أمضاها حجاب في المعتقل في شبابه)، وربما لأنه امتنع -في صمت وإصرار- عن المشاركة في أي مهرجانات رسمية (رغم محاولة البعض أن يلصق به بعض أوبريتات كتبها في الحقيقة عبد السلام أمين)، وربما لسيطرة شعور أسيف آخر، هو أن مصر تفقد هذه المرة حقاً، آخر عمالقتها في الشِّعر. لم يعد "للعامية" كبير، يقول كثيرون، ولم يعد للشِّعر المصري، برمته، كبير، يقول من هم أكثر. لذا فإن اصطناع الجدل حول كتابة سيد حجاب لديباجة الدستور المصري بعد "30 يونيو"، لم يصمد كثيراً. بدلاً من ذلك، كان الرثاء مفعماً باستعادة الإسهام الهائل لسيد حجاب في الأغنية الدرامية المصرية، وهو إسهام يصل إلى درجة التأسيس.

يقال إن لكل أديب سؤالاً واحداً يطل بأشكال مختلفة في أعماله مهما تنوّعت. ويقال أيضاً أن كل شاعر هو قصيدة واحدة تتشكل في آلاف الأبيات. إن صحّ ذلك، فإن سؤال حجاب وقصيدته يقعان في لحظة دائمة ما بين الماضي والمستقبل. في تبدّل الزمان ذاك، بحث حجاب عن تفسير لكل شيء. فتبّدل، أو "اختلاف الزمن"، هو مصدر "الشجن"، كما يقول حجاب في أغنية الشارة/التتر لمسلسل "ليالي الحلمية". ومرة أخرى، في "اللقاء التاني" هذه المرة، حين يطرح سؤاله الفلسفي: "يا ترى اللي بيعيش الزمن احنا، ولا الزمن هو اللي بيعيشنا؟".

لا يكاد حجاب يكف عن مساءلة الزمن في قصائده وأغنياته. الزمن المنفلت "بينفلت من بين إيدينا الزمان، كأنه رفة قوس في أوتار كمان"، مقدمة مسلسل "أرابيسك" التي تواصلها نهاية المسلسل ذاته: "ويرفرف العمر الجميل الحنون، ويفر ويفرفر في رفة قانون". وهي صياغة أخرى لـ"ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا، وما تنتهيش داحنا يا دوب ابتدينا" في "ليالي الحلمية".

هذه المساءلة الزمنية، التي لم ينفرد بها- بطبيعة الحال- سيد حجاب، اكتسبت ملمحها "الحجابي" عبر البحث الدائم عن إجابة الحاضر في انعكاس المستقبل على الماضي، أو البحث عن أجوبة الأمس في الغد. لكن، مهما كان ذلك الأمس مظلماً، ثمة يقين -يهتز أحياناً – في قصيدة حجاب، يقين بأنه "مهما ميزان الدنيا كان معووج، لا بد يوم يصفى الزمن ويروق، ودي حكمة الأيام"، كما يقول في شارة نهاية مسلسل "الأيام- طه حسين" التي تبدأ بـ "دوامة سودا ودايرة تحت وفوق، والدنيا بحر غويط وعالي الموج". لكن كيف انقلب هذا الظلام- في إشارة إلى عجز بصر طه وصعوبة حياته- إلى ذلك الزمن "الرايق"، فقط "ما دام في القلب حب وشوق"، إنه اختيار الحياة الذي نجده مرة أخرى في نهاية "أرابيسك"، إن "درت ضهرك للزمن يتركك، لكن سنابك مهرته تفركك، وان درت وشّك للحياة تسبكك، والخير يجيك بالكوم وهمك يهون".

إذا كانت متواصلة، تلك المساءلة الزمنية المشغولة بالبحث، المنسوجة بحرفة لغوية تكاد تكون مستفزة أحياناً: "الغش طرطش رشّ ع الوش بوية، مادرتش مين بلياتشو أو مين رزين؟"، تسائل الأيام والساعات والسنين، فإن ما يمنحها معناها الشعري، هو ذلك المزيج المرتبك بين اليقين والأمل من جهة، واهتزاز الثقة يمليه واقع الحال من جهة أخرى، كما يبدو واضحاً في "بوابة الحلواني": "باحلم يا صاحبي، وانا لسة باحبي، بدنيا تانية ومصر جنة، آجي أحقق الحلم ألقى، موج عالي طاح بي". هذا النداء على الغد والحلم والفجر، سمة ليست دائمة لكنها عبّرت عن نفسها كلما استطاعت في أغنيات حجاب. لا نموذج أفضل من تمازجها مع سؤاله الزمني من أغنية "الليل وآخره"، يتجلى تضارب الزمن: "ليلاتي في المعاد ده، ينعاد عمري اللي عدى، والقى الماضي اللي عاد ده، ع الحاضر يستعدى". هذا الماضي الذي "يستعدى على الحاضر"، لا مهرب منه إلا بالنداء على الفجر في الأغنية ذاتها: "يا فجر يا جاي تعالى، زيح حمل تقيل حانيني".

وإذا كان يمكن العثور على إشارات الماضي والمستقبل في المئات من أشعار وأغنيات سيد حجاب، ولأن الشاعر- حسب ما يُزعم – قصيدة واحدة، فليس غريباً أن نعثر على سؤال حجاب نفسه حتى في ديباجة الدستور التي كتبها، حين أراد وصف ثورة (25 يناير- 30 يونية) (وكانتا ما تزالان مرتبطتين)، فيصفها بأنها "إشارة إلى ماضٍ ما زال حاضرًا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها". غير أنه، قبل الدستور بسنين، كان قد قال في "مين اللي ما يحبش فاطمة": "يا هل ترى يا نور يا بعيد... انت بصحيح ولا انت سراب؟ وهعيش معاك في الضيّ سعيد، ولا غريب ما بين أغراب؟".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب