الجمعة 2016/09/16

آخر تحديث: 17:39 (بيروت)

حلب والنظام الدولي الجديد

الجمعة 2016/09/16
increase حجم الخط decrease
لعل "اتفاقيّة حلب" أو "اتفاقيّة كيري- لافروف" أبرزت ومَظْهَرَت النظام الدولي المعاصر الذي نعيشه الآن."التشابك" هي السمة الأساسيّة لعلاقة "التوازن" نسبيّاً بين القوى الأساسيّة فيه، مع الاحتفاظ بمبدأ الدول ذات السيادة، والمستمر منذ "نظام وستفاليا" (1648).

انهار نظام الحرب الباردة وصراع العملاقين الأميركي والسوفياتي، فتلاه نظام دولي استند إلى أحادية القطب الأميركي المنتصر في الحرب الباردة، الذي سعى نسبيّاً لفرض نمط معين من النظم، خصوصاً النيوليبراليّة. وحاضراً، نشهد الانتقال من تلك الأحادية الأميركيّة إلى نظام آخر قوامه الاستمرار في معطيات "نظام وستفاليا"، مع حلول "التشابك" بين القوى الدوليّة الأساسيّة الحافظة للنظام (أميركا قوة كبرى بوزن خاص، ثم روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، كقوى دوليّة متفاوتة). واستطراداً، يعني ذلك أن كل قوة تزيد وزنها (بالقوتين الناعمة والقاسية) وتؤثّر في الأخرى، وتتنافس القوى بأوزانها لكنها لا تتصارع بالطرق التي كانت في النظم الدوليّة منذ وستفاليا. وفي تدخل القوى الدوليّة إلى الصراعات الإقليمية بتوازن يحدّده تشابكها الذي لا تخرج منه، فتحفظ النظام الدولي وتتنافس وتتصارع تحت سقف التشابك بينها. وتحت ذلك السقف، هناك ظاهرة "تفكك مركزة" لنقطة الثقل في القوة دوليّاً (لا قطب وحيداً، ولا قطبان، لكن أيضاً ليس أقطاب عدّة)، مع بروز دور غير مسبوق تاريخيّاً للقوى غير الدولتيّة يظهر بوضوح في الإرهاب الإسلاموي، لكنه ليس حكراً عليه.

تفكك المركزة... بقاء المركز!
قبل اتفاق حلب، سأل معلّق تلفزيوني أحد المرشحين المغمورين للرئاسة الأميركيّة عن حلب، فجاء الرد: "ما هي حلب"؟ سرعان ما صارت تلك الكلمات "هاشتاغ" اكتسح الـ"سوشال ميديا" عالميّاً. هل تعطي حلب إسمها للنظام الدولي المعاصر؟

مجدداً، ماذا لو جرّبنا تحدّي السائد، عبر التفكير بـ"اتفاق حلب" كمشهد يكثّف النظام الدولي الذي نعيشه في العقد الثاني من القرن 21، وبأن ما يكمل المشهد الحلبي يجدر البحث عنه في المناورات الصينيّة- الروسيّة في بحر الصين الجنوبي، وبتصاعد رنين عن "تسوية ما" في أوكرانيا؟

هل توسّع البيكار كثيراً بين أوكرانيا وبحر الصين؟ إذاً، لنعد بهدوء إلى حلب. (على رغم عدم الجدوى، يحس القلب بغصّة عند كلمة "هدوء" بعد ذِكْر حلب التي تعاني مجازر متنوّعة في كل ثانية. الهدوء هنا للعقل نسبيّاً، أما القلب، فله شأن آخر).

في ظل النظام الدولي المعاصر، تخف حركة الانتقال من الصراع على المشروعيّة الداخلية إلى صراعات إقليمية، بالأحرى لم تعد تلك الحركة مرتبطة بصراع بين نمطين عالميّين (رأسمالية واشتراكية)، تدعمهما القوى الكبرى إلى حد الصراع المسلح.

ونسبيّاً، لا تشاهد تلك الآليّة بحدّة إلا في أوكرانيا والشرق الأوسط. لأن الانتقال من نظام دولي إلى آخر هو تدرّج واستمرار في الصراعات، وتصلح أوكرانيا والشرق الأوسط لإبراز سمات النظام الدولي المعاصر. للمقارنة، تشهد أميركا اللاتينيّة والوسطى انتقالاً للسلطة بين اليمين واليسار من دون حروب، للمرّة الأولى منذ قرون مديدة، بل تنتهي فيها حروب كانت مستمرة منذ "الحرب الباردة". وتتصاعد حدّة التوتّرات في المدى الاستراتيجي للصين (بما فيه الانتقال التاريخي في بورما)، من دون حروب فيها. على رغم الضجيج التي تثيره كوريا الشمالية، فهي لا تعدو كونها "ثقلاً" تضيفه الصين إليها، كي تحفظ توازنها النسبي مع أميركا. وفي المناورات المشتركة بينهما، تحاول الصين وروسيا الاستفادة من معطى كوريا الشماليّة، لكنها أيضاً تفعل ذلك لتزيد توازنها مع أميركا والاتحاد الأوروبي الذي يبدو موشكاً على فقدان "الثقل" الذي يحصل عليه من العقوبات ضد روسيا. الخلاصة؟ هناك تفكك لظاهرة مركز قوة للنظام العالمي، لكن النظام المتشابك له "مركز" قوي هو حصيلة التقاطع بين القوى الدوليّة التي تحفظ "شبكة" النظام الدولي. ألا ينطبق ذلك على المشهدية المتكررة للظهور التعاوني بين كيري ولافروف؟ ألا يظهر ذلك عند قراءة وضع تركيا الأطلسيّة الحليفة الأميركيّة، وذات العلاقة الصاعدة مع روسيا (والصين)، وعلاقاتها المتأرجحة والمعقدة مع الاتحاد الأوروبي؛ والتي تستند إلى ذلك التشابك في إدارة علاقتها مع المنطقة الممتدة من السعودية إلى حدودها مع سوريا؟

الأحادية الأميركيّة الواهنة
الأرجح أن ظاهرة توزّع القوة في النظام الدولي هي أساس لبروز "مركز" مكوّن من قوى بأوزان مختلفة ومتشابكة فيه. ومن جهة اخرى، يكون التوزّع عينه سبباً لظهور فريد من نوعه لقوى غير دولتيّة صارت لاعباً فاعلاً فيه (للمرة الأولى في التاريخ الحديث)، خصوصاً ظاهرة "الإرهاب الإسلاموي" الذي "يربك" حتى الإسلامويّة كـ"وزن" أساسي في النظام المتشابك الدولي. تعطي تركيا وتحوّلاتها نموذجاً عن ذلك الإرباك والظهور أيضاً، ولعل تخليها عن "داعش" (وربما "النصرة")، هو حسم تعوّضه بالتمايل صوب روسيا نسبيّاً، لكن حركتها تتولّد أيضاً من التحدّي الكردي الداخلي وتفاعلاته مع وضع الكرد في سوريا.

في سياق متّصل، رعى نظام الأحادية القطبية صراعات أوروبيّة في البلقان، شهدت تفكك دول وظهور اخرى جديدة، مع صعود قوي لظاهرة العولمة الحديثة، ونشر نظام نيوليبرالي أميركي في العالم. كانت شبكة الانترنت ومؤسّسات كـ"منظمة التجارة العالمية" و"البنك الدولي"، من الروافع الأساسيّة فيه. ولأسباب كثيرة، لم يصمد ذلك النظام طويلاً.

يصح القول بأنّ نظام الأحاديّة الأميركيّة صمد حيال ضغوط مختلفة ربما كان نموذجها (خارج الصراعات العسكريّة) الأزمة الاقتصادية في "النمور الآسيويّة" عند ختام الألفية الثانية، وهي أزمة اعتبرها كثيرون فشلاً لتعميم نمط الأحادية الأميركيّة في النيوليبرالية، وليس مجمل النمط الرأسمالي. وإضافة إلى قائمة طويلة من الحروب الإقليمية ربما أبرزها حربا أفغانستان والعراق، بدت الأحاديّة الأميركيّة غير قادرة على التعامل مع التحدّي الحاسم الذي فرضته الأزمة الاقتصادية العالميّة. بقول آخر، لم يعد خافياً فشلها في القوة الناعمة (النموذج النيوليبرالي المتطرف)، والقوة القاسيّة (العراق، أفغانستان، أوكرانيا، الكونغو و... الحرب على الإرهاب)، ما أشر على الانتقال التدريجي إلى النظام العالمي المتشابك.

قوى لادولتيّة: تحدي النظام المتشابك؟
منذ "وستفاليا"، يعتمد النظام الدولي على ذراعي الدول واستقلالها وسيادتها ومشروعيتها من جهة، فيما ذراعه الكبرى الثانية هو التوازن بين القوى الكبرى التي "تحفظ" النظام، كما تتصارع تحت سقفه.

في "مؤتمر فيينا" (1814- 1815)، برزت مسألة المشروعيّة الداخليّة بقوّة باعتبارها شرطاً ملازماً لسيادة الدولة، فصار ذلك جزءاً من "نظام وستفاليا". واجتاز ذلك النظام حروب القرن التاسع عشر، خصوصاً الوحدتان الألمانية والإيطالية، لكنه أنهار تحت وطأة المتغيّرات التي راعاها بنفسه. ومع ذلك الانهيار، اندلعت حربان عالميتان مركزهما أوروبا التي ابتكرت "نظام وستفاليا"، بل عملت على نشره عالميّاً.

أعقب ذلك نظام "اتفاقيّة يالطا" (1945) التي أعطت إسمها للنظام الدولي في الحرب الباردة، بسِمات تشمل الاحتفاظ بالنظام الوستفالي عبر التسليم بسيادة الدول وربطها بالمشروعيّة الداخلية؛ لكن مع إضافة الصراع على المشروعية الداخلية الذي صار مرتبطاً مع صراع مرير على نمطين للدول تصارعا عبر الكرة الأرضيّة، بمعنى أنّ الصراعات الداخلية كانت مندغمة مع الصراع على النفوذ وتقاسمه دوليّاً (حرب فيتنام مثال واضح على انتقال الصراع على المشروعية الداخلية إلى حرب اقليمية واسعة بين القوتين الأساسيّتين للحرب الباردة)؛ إضافة إلى كون الردع الذري سقفاً للردع الاستراتيجي في "الحرب الباردة".

في الأحادية القطبيّة، رُفعت مسألة المشروعيّة الداخلية إلى درجة قصوى، واستُخدمت في "تبرير" إعادة دولة مستقلة كالعراق إلى الاحتلال المباشر. وبالتدريج، برزت القوى اللادولتيّة على أيدي الدول (حرب أفغانستان ضد السوفيات، أبرزت "القاعدة")، ثم صارت لاعباً فريداً على مسرح تاريخ النظام العالمي. في مرحلة الأحادية القطبيّة، برز عنوان "الحرب على الإرهاب"، لكنها لم تنجح. هل يستطيع النظام الدولي المتشابك أن يصل إلى خاتمة اللعبة مع القوى اللادولتيّة ("داعش" نموذجاً، رغم طموحه "الدولتي")، خصوصاً مع مقاربة متنوّعة تتضمن توسيع "الشبكة" عبر انخراط قوى اقليميّة (تركيا، السعودية، إيران...)، ومراعاة المشروعية الداخلية المنظورة منذ "نظام وستفاليا"، على غرار سقوط المالكي ومحاولة إدماج السنّة العرب في الحرب على "داعش"، وكذلك "ضبط" المتغيّر الكردي ضمن خريطة دولتيّة ما في الشرق الأوسط؟ الأرجح أن ثمة كلاماً كثيراً آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها