الإثنين 2016/03/28

آخر تحديث: 07:41 (بيروت)

“السفير” وإقتصاد بلا نقابات

الإثنين 2016/03/28
increase حجم الخط decrease

صدمة الزملاء في صحيفة “السفير” بخسارتهم تعويضات مالية يستحقونها عن عقود من العمل فيها، لم يُخفّف منها قرار الناشر بتأجيل الإقفال. في السيرورة الطبيعية للصدمة، أنها تخلق وعياً غير مزيّف، يكشف الواقع كما هو بين رب عمل يجني أرباحاً وعامل لا حقوق له ولا من يُدافع عنها. وهذا الشعور بسهولة خسارة الحقوق لصالح رب العمل، هو من أسس الاقتصاد اللبناني.

والحال أن قرار اقفال “السفير”، ورغم تأجيله، كشف مجدداً الهوة بين الصحافيين، وهم عمال هذه المهنة، وبين نقابتي المحررين والصحافة اللتين تحولتا إلى منبر للزيارات والعلاقات السياسية، لا لمؤسسة مهمتها الدفاع عن حقوق الصحافيين في سوق تزداد ضيقاً. وهذا الفراغ النقابي ينسحب أيضاً على معظم القطاعات الحيوية، وبينها “الاتحاد العمالي العام”، المؤسسة الأم. وتغييب النقابة، بما تعنيه من الغاء قدرة الموظفين على تشكيل كتلة لحماية حقوقهم المالية ومفاوضة رب العمل، هو نوع من الفساد المالي في الدول النامية، إذ يُسهم في مراكمة الأرباح وحمايتها على حساب رواتب العمال والموظفين ومستحقاتهم. 

وليست الصحافة وحدها في أزمة مالية، بيد أن مؤسسات كبرى مثل فندق فينيسيا بدأت تصرف موظفين، والقطاع العقاري يعاني من ركود طويل الأمد وعمليات صرف واسعة. ولو أضفنا انعكاسات الأزمة السياسية الأخيرة مع دول الخليج، على المغتربين اللبنانيين هناك، لرأينا واقعاً إقتصادياً يزداد قتامة. والمثير للعجب في لبنان أن تدهور الاقتصاد غائب عن السياسة ونقاشات الأفرقاء الإقليمية الطابع. وهو غياب شكا منه وزير الداخلية السابق زياد بارود، واصفاً أرقام البطالة بـ”المخيفة”.

لهذا، بإمكان الواقع الاقتصادي أن يزداد سوءاً دون اكتراث أحد في الطبقة السياسية، إذ ما المانع أن يصير لبنان كله مثل طرابلس حيث تتجاوز نسبة الفقر عتبة الخمسين في المئة؟ فالسياسيون كرجال الأعمال والناشرين الكبار، راكموا ثروات من الطفرة العقارية خلال العقد الماضي، ومن الاحتكارات التجارية، ولا يُبالون بقدوم سنوات طويلة من العجز، إذ لديهم ما يكفي لأجيال، لا لعقود. وفي أسوأ الحالات، يعيدنا الانهيار الاقتصادي والمالي إلى عصر الميليشيات، وهي مهد غالبية السياسيين اللبنانيين، وأول “بزنس” لهم.

والاقتصاد اللبناني برمته مُصمم على قياس هذه الطبقة من السياسيين والأثرياء. وهو يشهد منذ عهد ما بعد الحرب اعتماداً متزايداً على الخدمات. وهذه السياسة تعني عملياً أن النمو الاقتصادي لو حصل لا تتسرب فوائده إلى العمال بالشكل المطلوب. ولا يخلق هذا النمو وظائف بشكل كاف، بل مهمته أن يزيد الأثرياء ثراءّ، ويرفع نسب التضخم بما لا يتوافق مع مداخيل غالبية السكان. مثلاً، قطاع المصارف، وهو الأقوى لبنانياً، قادر على مضاعفة أرباحه مرات دون زيادة في أعداد موظفيه. ولا تتسرب هذه الأرباح إلى بقية الاقتصاد، كونها تصب في جيوب أشخاص معدودين يستثمرون أموالهم في دول مختلفة. 

وهذه الصورة تتضح في أرقام توزع الدخل لبنانياً. فبحسب دراسة للأمم المتحدة ووزارة الشؤون الاجتماعية عام ٢٠٠٨، فإن ٣٠٠ ألف لبناني يعيشون بأقل من ٧٥ دولاراً شهرياً، وثلث اللبنانيين، أي أكثر من مليون نسمة، يعيش بدخل يتراوح بين ٦٥٠ و٨٥٠ دولاراً شهرياً. الكتلة الأكبر المتبقية من السكان تعيش بأقل من ١٥٠٠ دولار شهرياً، وهي بالكاد تكفي لأساسيات الحياة اليومية. أقل من ١٠٪ من السكان يهنأون بحياة رغيدة، يستقدمون عشرات آلاف الخادمات الأجنبيات، ويكونوا غالباً مرتبطين بالطبقة السياسية.

في دول تتبنى سياسة اقتصادية طبيعية، ينصب الاهتمام على تنمية القطاعين الصناعي والزراعي أو المؤسسات المتوسطة والصغيرة، من أجل خفض مستوى البطالة وتوزيع النمو على قطاعات واسعة من الشعب. وحتى في ظل الانكماش، كما حصل في أوروبا منذ عام ٢٠٠٨، يخرج العاطلون عن العمل من النطاق الضريبي، ويتلقون مساعدات حكومية مصدرها الضرائب التصاعدية والجباية على الصعيدين المركزي والمحلي عبر البلديات. يتواصل تسرب الثروة من الأعلى حتى في ظل الأزمات. 

لكن في لبنان، الأزمة المالية والانكماش حكرٌ على أصحاب الدخل المحدود فقط. وما أقدم عليه بداية ناشر “السفير” يستنسخ ثقافة سياسية واقتصادية في لبنان، يدعي معاداتها والنضال ضدها. وباتت كتلة كبيرة من الزملاء في السفير على دراية بنوايا تتربص بها لو عاد قرار الافلاس الى الواجهة. يبقى أن نُترجم هذا الوعي، والتضامن العابر للسياسة في وسائل الاعلام، نقابياً. وللإعلاميين، لو اتحدوا، قدرة أكبر على تجاوز شلل النقابة المفروضة عليهم من فوق، أي من أصحاب الصحف، أرباب العمل، والقيادات السياسية الممولة والراعية لها. وما حصل خلال الايام الماضية وفّر نافذة لمواجهة قد تفتح أبواب نقابات أغلقتها الطبقة السياسية.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها